هيئة الإشراف
_10 _January _2014هـ الموافق 10-01-2014م, 06:16 PM
الدرس العاشر: الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
ودليل الاستعانة قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 5]وفي الحديث: (( إذا استعنت فاستعن بالله )).
ودليل الاستعاذة قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾[الفلق: 1]وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[الناس: 1].
ودليل الاستغاثة قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ الآية [الأنفال: 9]. ودليل الذبح قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162، 163] ومن السنة: (( لعن الله من ذبح لغير الله )). ودليل النذر قوله تعالى: ﴿يُوْفُوْنَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾[الإنسان: 7].
عناصر الدرس:
· الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة
- معنى الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة
- بيان التناسب بين هذه العبادات
- تحقيق الاستعانة
- أنواع الاستعانة
· الذبح
- معنى الذبح
- أقسام الذبح
· النذر
- معنى النذر
- أقسام النذر
- فضل الوفاء بالنذر
- ملخص لأحكام النذر
الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة
· الاستعانة هي طلب الإعانة على تحصيل منفعة.
· والاستعاذة هي طلب الإعاذة من ضرّ يخشى وقوعه.
· والاستغاثة هي طلب الإغاثة لتفريج كربة، فالاستغاثة أخص منهما لأنها تكون عند الشدة.
· هذا الطلب يكون بالقلب والقول والعمل.
· الاستعانة أوسع هذه المعاني الثلاثة وهي عند الإطلاق تشملها جميعاً، فتكون الاستعاذة هي طلب الإعانة على دفع مكروه، والاستغاثة هي طلب الإعانة على تفريج كربة.
· الاستعانة بابها واسع وهي من أعظم العبادات وأجلها حتى إنها جعلت قسيمة العبادة في سورة الفاتحة وهي من العبادة لأهميتها فقال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5].
· الاستعانة بمعناها العام تشمل الدعاء والتوكل والاستعاذة والاستغاثة والاستهداء والاستنصار والاستكفاء وغيرها.
· بيان ذلك أن كل ما يقوم به العبد من قول أو عمل يرجو به تحصيل منفعة أو دفع مفسدة فهو استعانة.
· وحاجة العبد إلى الاستعانة بالله تعالى لا تعدلها حاجة، بل هو مفتقر إليه في جميع حالاته؛ فهو محتاج في كل أحواله إلى الهداية والإعانة عليها، ومحتاج إلى تثبيت قلبه على الحق، ومغفرة ذنبه وستر عيبه وحفظه من الشرور والآفات وقيام مصالحه.
· العبد حارث همام يجد في قلبه في كل وقت مطلوباً من المطلوبات يحتاج إلى الإعانة على تحقيقه.
· الله تعالى هو المستعان الذي بيده تحقيق النفع ودفع الضر، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو سبحانه.
· هذا الأمر تكرر تأكيده في القرآن العظيم في مواضع كثيرة:
- منها: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الأنعام: 17].
- وقوله: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[يونس: 17].
- وقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾[الزمر: 38].
- وقوله: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[فاطر: 2].
- وقوله: ﴿أمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾[الملك: 20، 21].
فالرزق هو جلب النفع، والنصر هو دفع الضر.
- وقوله: ﴿فابتغوا عند الله الرزق﴾[العنكبوت: 17].
- وقوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه﴾[الحجر: 21] وتقديم الظرف للحصر.
- وقوله: ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾[النجم: 42].
· قال ابن القيم رحمه الله: (﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه﴾[الحجر: 21] متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كلَّ شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه، وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه، وقوله: ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾[النجم: 42] متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يُرَد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع؛ فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها؛ فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه؛ فهو غاية كل مطلوب؛ وكل محبوب لا يحب لأجله؛ فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله؛ فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه؛ فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه)
· قال: (فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه﴾[الحجر: 21] واجتمع ما يراد له كله في قوله: ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾ [النجم: 42] فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى).
· قال: (وتحت هذا سرٌّ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقرُّ ولا يطمئنُّ ولا يسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد؛ فمراد لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين، كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين؛ فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعمته ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد)ا.هـ.
· المقصود أنه لا يحصل لعبد نفع في أمر من أمور دينه ودنياه إلا بالله جل وعلا، فهو المستعان وحده على كل ذلك.
· وكل سبب من الأسباب التي يبذلها العبد لتحقيق النفع أو دفع الضر لا يستقل بالمطلوب، فلا يوجد سبب مستقل بالمطلوب، بل لا بد أن يكون معه سبب مساعد ولا بد معه أيضاً من انتفاء المانع، ولا يكون كل ذلك إلا بإذن الله جل وعلا.
· من أبصر هذا حقيقةً أسلمَ قلبَه لله جل وعلا، وعَلِمَ أنه لا يكون إلا ما يشاء الله، وأن ما يطلبه من خير الدنيا والآخرة لا يناله إلا بإذن الله وهدايته ومشيئته، وأن لنيل ذلك أسباباً هدى الله إليها وبيَّنها.
· من كان على يقين بهذا قام في قلبه أنواع من العبودية لله جل وعلا من المحبة والرجاء والخوف والرغب والرهب والتوكل وإسلام القلب له جل وعلا والثقة به وإحسان الظن فيه.
· يجعل الله في قلب المؤمن بسبب هذه العبادات العظيمة من السكينة والطمأنينة والبصيرة ما تطيب به حياته وتندفع به عنه شرور كثيرة وآفات مستطيرة.
· الناس في العبادة والاستعانة على أقسام؛ فأفضلهم الذين أخلصوا العبادة والاستعانة لله تعالى فحققوا ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾[الفاتحة: 5] واستعانوا بالله تعالى على عبادة الله كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل أن يقول دبر كل صلاة: (( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)). رواه أحمد، وهؤلاء بأفضل المنازل.
· فَقِه معاذ بن جبل هذا الحديث أحسن الفقه؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن معاذٍ أنه قال: (أما أنا فأنام ثم أقوم فأقرأ فأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي). متفق عليه، ولهذا الخبر قصة يجدر الوقوف عليها.
· هذا أمر قد يغفل عنه كثير من الناس؛ فإن من أخلص قلبه لله جل وعلا جعل ما يفعله من المباحات سبباً للتقوي على طاعة الله جل وعلا وحسن عبادته حتى تكون حياته كلها لله كما قال الله تعالى لنبيه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162، 163].
· المسلمون يتفاضلون في هاتين الصفتين تفاضلاً عظيماً فهم على درجات فيهما لا يحصيهم إلا من خلقهم، فمن حقق إخلاص العبادة والاستعانة فهو سابق بالخيرات بإذن ربه.
· يكون لدى بعض الناس ضعف في إخلاص العبادة، وضعف في إخلاص الاستعانة.
· والتقصير في إخلاص العبادة تحصل بسببه آفات عظيمة تحبط العمل أو تنقص ثوابه كالرياء والتسميع وابتغاء الدنيا بعمل الآخرة، وأخف من هؤلاء من يؤدي هذه العبادات لله لكن لا يؤديها كما يجب؛ فيسيء فيها ويخلّ بواجباتها لضعف إخلاصه وقلة إيمانه.
· والتقصير في الاستعانة تحصل بسببه آفات عظيمة من الضعف والعجز والوهن فإن أصابه ما يحِبُّ فقد يحصل منه عجب واغترار بما يملك من الأسباب، وإن أصابه ما يكره فقد يبتلى بالجزع وقلة الصبر.
· وكلا التقصيرين لا يحصل لصاحبه طمأنينة قلب ولا سكينة نفس ولا تطيب حياته حتى يحقق هذين الأمرين.
تحقيق الاستعانة
· تحقيق الاستعانة يكون بأمرين:
- أحدهما: التجاء القلب إلى الله تعالى والإيمان بأن النفع والضر بيده جل وعلا وأنه مالك الملك ومدبر الأمر، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه سميع عليم وقريب مجيب، فيستعين به راجياً إعانته.
- والآخر: بذل الأسباب التي هدى الله إليها وبينها، فيبذل في كل مطلوب ما أذن الله تعالى به من الأسباب.
· هذان الأمران أرشد إليهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز))
- الحرص على ما ينفع عام في أمور الدين والدنيا.
- والاستعانة بالله تكون بطلب عونه وتأييده وتحقيق ما ينفع.
- والعجز هو: ترك بذل السبب مع إمكانه؛ فنُهي عنه.
· رتَّب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات الثلاث ترتيباً بديعاً لتوافق الحال؛ فإن معرفة المطلوب ومعرفة نفعه والحرص عليه سابقة للاستعانة على تحقيقه، ثم تكون الاستعانة مرتبة بعدها؛ فيطلب العبد العون من ربه جل وعلا على تحقيق ما ينفعه وأن يهديه لتحصيله من الوجه الذي يحبه ويرضاه، ثم يبذل الأسباب التي أذن الله بها.
· إذا قام العبد بهذه الأمور فقد حقق الاستعانة؛ فإن تحقق له ما يطلب كان من الشاكرين، وإن أصابه ما يكره من فوات مطلوبه قال: (( قدر الله وما شاء فعل)) فصبر لذلك وأحسن الظن بالله، ورجا أن يعوضه ربه خيراً فيما فاته، والله تعالى كريم لا يضيع أجر العاملين، ولا يخيب رجاء من صدق الرجاء فيه.
· وأما ترك الأخذ بالأسباب فهو عجز مذموم، كما أن تعلق القلب بها شرك مذموم.
أنواع الاستعانة
· أفضل أنواع الاستعانة وأكملها وأحبها إلى الله الاستعانة بالله على طاعة الله، وكلما كان المؤمن أشد حباً لله ورجاء في فضله وخوفاً من سخطه وعقابه كان على هذا الأمر أحرص، وعرف أن حاجته إليه أشد.
· والمؤمن مأمور بأن يستعين الله تعالى في جميع شؤونه حتى في شسع نعله فإنه إذا لم ييسره الله لم يتسير، وقد روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مختلف في صحته، ومعناه صحيح، وقد أمر الله تعالى بالسؤال من فضله فقال: ﴿واسألوا الله من فضله﴾[النساء: 32] وهو يشمل فضله في الدنيا والآخرة.
· من الناس من يغلب عليه الاستعانة بالله لتحقيق المطالب الدنيوية حتى تشغله عن المطالب الأخروية فإن تحقق له ما يطلب من أمور الدنيا فرح به، وإن حُرمه ابتلاء واختباراً جزع وسخط؛ فهذا النوع في قلوبهم عبودية للدنيا، وقد تُعجَّل لهم مطالبهم فتنة لهم ثم تكون عاقبتهم سيئة.
· سبب ذلك أنهم شابهوا الكفار فيما ذمهم الله به؛ فقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) ﴾[الإسراء: 18-21].
· وقال: ﴿من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب﴾[الشورى: 20].
· وقال: ﴿من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار﴾ [هود: 15، 16]
· أصل بلاء الكفار إيثارهم الحياة الدنيا على الآخرة كما قال تعالى: ﴿بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى﴾[الأعلى: 16، 17] وقال: ﴿وويل للكافرين من عذاب شديد (2) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة﴾[إبراهيم: 2، 3]. وقال:﴿فأما من طغى (37) وآثر الحياة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) ﴾[النازعات: 37-39].
· الناس في إرادة الدنيا على ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة إيثاراً مطلقاً فهي همهم ولأجلها عملهم؛ فهؤلاء هم الكفار الذين عناهم الله تعالى في الآيات السابقة، ويلتحق بهم كل من ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام بسبب إيثاره للحياة الدنيا، والعياذ بالله.
- القسم الثاني: الذين لديهم نوع إيثار للحياة الدنيا حملهم على ترك بعض الواجبات واقتراف بعض المحرمات فهؤلاء هم أهل الفسق من المسلمين.
- القسم الثالث: الذين استعانوا بأمور الدنيا على ما ينفعهم في الآخرة،فأخذوا منها ما يستعينون به على إعفاف أنفسهم والتقوي على طاعة الله؛ فهؤلاء هم الناجون السعداء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنها: (( نعم المال الصالح للرجل الصالح)). رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
أقسام الاستعانة
· الاستعانة على قسمين:
- القسم الأول: استعانة العبادة، وهي التي يصاحبها معانٍ تعبدية تقوم في قلب المستعين من المحبة والخوف والرجاء والرغب والرهب فهذه عبادة لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، ومن صرفها لغيره فهو مشرك كافر.
قال الله تعالى فيما علّمه عباده المؤمنين: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 5]؛ وتقديم المعمول يفيد الحصر، فيستعان بالله جل وعلا وحده، ولا يستعان بغيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (( وإذا استعنت فاستعن بالله)) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وكذلك استعاذة العبادة واستغاثة العبادة فإنه لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل؛ فمن صرفها لغير الله عز وجل فهو مشرك شركاً أكبر مخرج عن الملة والعياذ بالله كما يفعله عباد القبور والأولياء فإنه يقوم في قلوبهم من العبوديات لمن يدعونهم ويستعينون بهم ويستعيذون بهم ويستغيثون بهم ما هو من أعظم الشرك والكفر بالله جل وعلا.
الاستعانة ملازمة للعبادة فكل عابد مستعين؛ فإنه لم يعبده إلا ليستعين به على تحقيق النفع ودفع الضر.
- القسم الثاني: استعانة التسبب، وهو بذل السبب رجاء نفعه في تحصيل المطلوب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
هذه الاستعانة ليس فيها معانٍ تعبدية وهي كما يستعين الكاتب بالقلم على الكتابة؛ وكما يستعين على معرفة الحق بسؤال أهل العلم.
· استعانة التسبب حكمها بحسب حكم السبب وحكم الغرض فإذا كان الغرض مشروعاً والسبب مشروعاً كانت الاستعانة مشروعة، وإذا كان الغرض محرماً أو كان السبب محرماً لم تجز تلك الاستعانة، فإن تعلق القلب بالسبب كان ذلك شركاً أصغر من شرك الأسباب.
· الاستعانة المشروعة: هي بذل الأسباب المشروعة لتحقيق المطالب المشروعة؛ كالاستعانة على إعفاف النفس بالكسب الطيب والزواج، والاستعانة على دفع المرض بالدواء واختيار الطبيب الحاذق ونحو ذلك فهذه استعانة تسبب مشروعة وقد تجب في أحوال.
· لكن إذا تعلق القلب بالسبب كتعلق المريض بالطبيب فهذا من شرك الأسباب كما سبق إيضاحه.
· ومثال الاستعانة المحرّمة: الاستعانة بالحيل المحرمة على الكسب غير المشروع.
· الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة من المسائل المهمة التي تتعلق بها حاجة العبد في جميع أحواله.
· قال الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة: 45].
- الاستعانة هنا بالصبر والصلاة هي من باب استعانة التسبب؛ فالصبر والصلاة سببان عظيمان للاستقامة على دين الله جل وعلا والفوز بفضله ورضوانه وهما أصل كل خير.
· وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ستكون فِتَن، القاعِدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من السَّاعي، مَنْ تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفْهُ، ومَن وَجَدَ مَلْجأ أو مَعاذا فَلْيَعُذْ به))، وفي رواية عند مسلم: (( فليستعذ)) ومعناهما واحد، والمقصود الاستعاذة بهذه الأسباب من الوقوع في تلك الفتن؛ فهي استعاذة تسبب، والكلام في الاستعاذة والاستعانة واحد.
الذبح
· الذبح المراد به ذبح القرابين من الأنعام.
· والذبح من الشعائر التعبدية الظاهرة فيفعله الموحدون لله جل وعلا، ويفعله المشركون تقرباً إلى معبوداتهم الباطلة لجلب النفع أو دفع الضر أو طلب الشفاعة أو الشكر.
· والذبح على قسمين: ذبح فيه معنى التعبّد، وذبح ليس فيه معنى التعبّد.
· أمّا الذبح الذي يكون فيه معنى التعبّد فهو ما أهلّ به لغير الله؛ إمّا بذكر اسم المذبوح له عند الذبح أو بقصد التقرب للمذبوح له.
· من الذبح التعبّدي: ذبح الهدي والأضاحي والنذور؛ فهذا الذبح عبادة صرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
· يجب على العبد أن لا يذبح إلا باسم الله تعالى،قال الله تعالى:﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾[الكوثر:2]
· النحر يكون للإبل، والذبح للبقر والغنم، وحكمهما واحد.
· وقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾[الأنعام: 162، 163].
· قوله: ﴿وَنُسُكِي﴾: النُّسُك هو كل ما يُتعبَّد به، وأشهر ما يطلق عليه لفظ النسك: الذبح، وبه فسَّر هذه الآية جماعة من السلف منهم مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة.
· النَّسيكة في اللغة: الذبيحة، وجَمْعُها نُسُك وَنَسَائِك.
· فالذبح الذي يكون على وجه التقرب أو يذكر عليه اسمٌ: عبادة من صرفه لغير الله جل وعلا فهو مشرك كافر سواء أكان المذبوح من بهيمة الأنعام أم غيرها.
· السبب في ذلك أن الذابح إذا أهلَّ باسم غير الله فقد أشرك به، وإذا قصد تقديم هذه الذبيحة قُرْباناً لغير الله جل وعلا فهو مشرك كافر بهذا التقرب.
· الذبح من الشعائر التعبدية الظاهرة؛ وكان من مظاهر الشرك المعروفة لدى المشركين أنهم يذبحون لمعبوداتهم تقرباً بين يدي حوائجهم أو شكراً، ولا يزال هذا في المشركين إلى اليوم.
· مِنَ المشركين مَنْ إذا عجز عن تقريب شيء من بهيمة الأنعام قرَّب دجاجة أو حيواناً صغيراً أو شيئاً حقيراً، وكل ما تقرب به إلى غير الله جل وعلا على وجه التعبد فهو شرك أكبر.
· لحرمة هذا الأمر حُرِّمَ أن يذبح المسلم في المكان الذي يُذبح فيه لغير الله جل وعلا؛ ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود وابن ماجه من حديث ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه وهو ممن بايع تحت الشجرة، قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببُوانَةَ؛فأتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة)؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعْبَد؟))
قالوا: لا.
قال:(( هل كان فيها عيد من أعيادهم؟))
قالوا: لا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)).
- هذا الرجل الناذرُ اسمُه كردم اليساري رضي الله عنه كما في مصنف ابن أبي شيبة ومسند الإمام أحمد عن ابنته ميمونة رضي الله عنها أنها كانت حاضرة سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم.
· بل حرِّم أكلُ ما لم يذكر اسم الله عليه كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 121]، فما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه،والميتة التي تموت ولم تذبح ويسمى الله عليها حرام لا يجوز أكلها.
· وأما من نسي التسمية من المسلمين فذبح ولم يسمِّ نسياناً فقد اختلف أهل العلم في حلِّ ذكاته على ثلاثة أقوال أصحها وهو قول جمهور الأئمة جواز أكلها لأنه لم يتركها عمداً وإنما نسي التسمية ولو ذكرها لم يتركها، وقد قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286].
- حكى ابن جرير الإجماع على جواز أكلها واعتبر ما روي عن ابن سيرين من المنع شاذاً.
- وأما من ترك التسمية عامداً فجمهور أهل العلم على أن ذبيحته لا تؤكل.
- كلّ ذبح ذكر عليه اسم عند الذبح فهو عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى.
· القسم الثاني: الذبح الذي لا يكون فيه معنى التعبد، وإنما يذبح للَّحم أو لغرض آخر لا يكون فيه معنى التقرب ولا يكون معه تسمية.
- هذا النوع من الذبح ليس بعبادة، ولا يحلُّ أكله لأجل أنه لم يذكر اسم الله عليه.
- ومن هذا النوع ذبائح الكفار التي يذبحونها للَّحم ولا يسمون عليها.
· ومن هذا النوع أيضاً: العقر الجاهلي، وهو ذبح البهيمة عند قبر الميت، وهو من أعمال الجاهلية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا عقر في الإسلام)) رواه أبو داوود وأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
· وأهل الجاهلية الأولى ومن شابههم لهم في ذلك اعتقادات باطلة فيعقرون على الميت إما جزعاً، أو لاعتقاد أن الميت يبعث عليها، أو لأنه جواد كريم فيكرَّم بهذه العقيرة بعد موته كما كان يكرم أضيافه، وكل هذه الاعتبارات باطلة والذبح بسببها محرم، وهو من إتلاف المال المحرم.
· ومن فعله من أهل الإسلام فقد شابَه أهل الجاهلية في هذا الفعل وذبيحته محرمة ولا نقول إنها شرك لأنه لم يذبح باسم غير الله ولم يتقرب بذلك إلى غير الله، كما روى الوالبي عن مجنون ليلي وهو قيس بن الملوح أنه لما أتاه خبر موت أبيه عقر ناقته على قبره، وقال في ذلك:
عقرت على قبر الملوّح ناقتي ... بذي الرمث لما أن جفاه أقاربه
فقلت لها كوني عقيراً فإنني ... غداة غدٍ ماش وبالأمس راكبه
· من العرب من يَعْقِلُ الناقة عند قبر الميت فيتركها لا تُعلف ولا تسقى حتى تموت، ويسمونها البَلِيَّة، كما قال لبيد:
تأوي إلى الأطناب كل رذيَّة ... مثل البليَّة قالص أهدامها
- يقول: إنه من كَرَمه أن بيته مأوى لكل رَذيَّة وهي المرأة الهزيلة التي قلصت ملابسها عنها من المجاعة حتى أشبهت البليَّة لما أصابها من الجَهْد والمشقة.
· وقال الحارث بن حلزة اليشكرى يصف معالجته للهمّ بركوب ناقته:
أتلهَّى بها الهواجرَ إذ كلّ ... ابنِ همٍّ بليَّةٌ عمياء
- أي إذا كان صاحب الهمّ مكباً على نفسه منهمكا في همّه كالبلية العمياء حتى يقضي عليه همُّه؛ فإني أمضي الهمّ بركوب ناقتي في هاجرة الظهيرة وألهو بها حتى يذهب همي.
· والمقصود أن الذبح إذا لم يحمل معاني تعبدية بحيث لا يذكر عليه اسم ولا يتقرب به إلى أحد فليس من ذبح العبادة، ولا يحلّ أكله، ومن ذلك ذبح الإتلاف، وقتل البعير الهائج دفاعاً عن النفس فإنّه إذا لم يسمّ فيهما؛ ففعله ليس فيه معنى العبادة، ولا يجو أكله لترك التسمية.
النذر
· النذر في لسان العرب: الإيجاب، فمن نذر شيئاً على نفسه فقد أوجبه عليها وألزمها به.
· قال عنترة:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمَي عرضي ولم أشتمهما ... والناذِرَين إذا لم ألقهما دمي
· أي: أنهما أوجبا على أنفسهما قتله، وكان بعض العرب يفعلون ذلك فينذرون دماء من يريدون قتلهم ثأراً، ويعلنون ذلك؛ فمن وَفَّى بنذره افتخر بذلك، ومن حار نذره كان ذلك عاراً عليه، كما قال بشر بن أبي خازم الأسدي:
حارَ نذرُك يابنَ سعدى ... وحق لنذر مثلك أن يحور
· وقال مزرّد الغطفاني يصف شدة جري حصانه:
يرى الشدَّ والتقريب نذراً إذا عدا ... وقد لحقت بالصلب منه الشواكل
- الشدّ: هو إحضار الجهد عند الجري، ولذلك يسمَّى إحضاراً أيضاً، والتقريب: مقاربة الشدّ والإحضار، فهو دونه.
- والصلب: الظهر، والشواكل: جمع شاكلة وهي ما رقَّ من لحم البطن مما يلي الخاصرتين.
- معنى بيت مزرّد: أن حصانه من أصالته وقوة شكيمته إذا جرى يرى أن شدة العدو أو مقاربة الشد فرض واجب عليه لا يرضى لنفسه بأقل منه، بمنزلة النذر الذي قطعه على نفسه ولزمه الوفاء به.
· ومعنى النذر في الشرع هو معناه في اللغة: فما أوجبه العبد على نفسه لله جل وعلا سمي نذراً، ولذلك فهو عبادة، فمن تعبد بهذا النذر لغير الله جل وعلا فقد أشرك الشرك الأكبر والعياذ بالله.
· يدخل في ذلك كل عبادة يوجبها العبد على نفسه من العبادات المشروعة في الأصل كالصلاة والصدقة والصيام والتلاوة وغيرها.
· أكثر ما يكون تقديم النذور في الصدقات، وتسمى تلك الصدقة المنذورة: نذيرة وجمعها نُذُور ونذائر؛ فلذلك قد يُطلق هذا اللفظ إطلاقاً خاصاً على الصدقات.
· النذر من شعائر التعبد الظاهرة، ولذلك يفعله الموحدون لله جل وعلا، ويفعله المشركون تقرباً لما يعبدونه من دون الله جل وعلا، تعالى الله عما يشركون.
· المشركون يقدمون تلك النذور بين يدي حوائجهم عند طلب الشفاعة وسؤال الحاجات أو شكراً بعد حصول نعمة أو ارتفاع بلاء؛ فمن نذر لغير الله جل وعلا فقد أشرك سواء أكان النذر بين يدي طلب الحاجة أم شكراً، لما في ذلك من معنى التعبد.
· وقد يطلق لفظ النذر على مطلق إيجاب الفعل دون إرادة معنى التعبد كأن يَنذُرَ ألا يكلّم فلاناً، أو لا يأكل نوعاً من الأكل، فهذا يطلق عليه لفظ النذر لكنه ليس فيه معنى التعبد.
· قد يكون هذا النذر في معصية كأن ينذر أخذ مال رجل بغير وجه حق أو ينذر سفك دمه أو ينذر التفريق بين زوجين ونحو ذلك فهذا كله محرم ولا يجوز الوفاء به.
· قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها.
أقسام النذر
· النذر له تقسيمات باعتبارات مختلفة، فيقسم باعتبار حقيقته إلىنذر عبادة ونذر إلزام مجرد من معنى العبادة، وهذا هو موضوعنا:
- فالقسم الأول: نذر العبادة وهو الذي يحمل معاني التعبد فيكون بقصد التقرب بين يدي الحاجة أو الشكر فهذا عبادة من صرفه لغير الله جل وعلا فهو مشرك شركاً أكبر مخرجاً عن الملة والعياذ بالله.
من النذر الشركي ما يفعله المشركون من تقديم القرابين والنذور فيأتي أحدهم بشيء ولو حقير ينذره لقبر الولي عند طلب الحاجة أو شكراً فهذا شرك أكبر والعياذ بالله، وإن لم يكن فيه لفظ النذر، فالعبرة بحقيقة الحال.
- القسم الثاني: النذر الذي يراد به الإلزام المجرد عن معاني التعبد كأن ينذر ألا يكلم فلاناً وإن لم يكن فيه لفظ النذر، كأن يقول رجل لابنه لئن لم تأتني فكلامك علي حرام، أو لا أكلمك أبداً، أو لأضربنك مائة سوط، ونحو ذلك، فهذا يسمى نذراً لأنه ألزم نفسه به، وليس فيه معنى التعبد.
- لكن لو قال: لِلْوَلِيِّ الفلاني عليَّ نذر أن لا أكلمك، فهذه عبادة لأنه قصد بهذا النذر التقرب لذلك الولي؛ فيكون بذلك مشركاً والعياذ بالله.
تقسيمات أخرى للنذر
· ويقسم النذر باعتبار تعليقه بشرط إلى نذر مشروط ونذر غير مشروط.
· فالنذر المشروط هو الذي علَّقه الناذر على شرط إن تحقق هذا الشرط ألزم نفسه بالنذر، وإن لم يتحقق لم يلزمه، كأن يقول: (لله علي إن برئت من مرضي أن أصوم شهراً)؛ فإذا برئ لزمه الوفاء بنذره.
· يجب الوفاء بالنذر ما لم يكن في الوفاء به مشقة ظاهرة فحينئذ يتحلل منه بكفارة يمين لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (من نذر نذراً لم يسمّه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين). رواه أبو داوود مرفوعا، وقال ابن حجر: وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه.
· في هذا الباب أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ومسائل محل بحثها ودراستها كتب الفقه، لكن أنبه إلى أن الوفاء بالنذر شأنه عظيم، وإخلافه كبيرة من الكبائر.
فضل الوفاء بالنذر
· مدح الله عباده الذين يوفون بالنذر فقال: فقال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) ﴾ [الإنسان: 5-12].
· فجعل من أول صفاتهم أنهم يوفون بالنذر؛ والوفاء بالنذر في هذه الآية يشمل أداء الفرائض التي أوجبها الله عليهم، وما أوجبوه على أنفسهم تقرباً لله جل وعلا.
· قال ابن كثير: (وقوله: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإنسان: 7] أي: يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر).
· وقال تعالى في الحجاج: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ(29)﴾[الحج: 29]؛ قال مجاهد:( ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾: نذر الحجّ والهَدي، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحجّ).
﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ اللام هنا للأمر.
· الوفاء بالنذر من صفات الأبرار الذين مدحهم الله عز وجل وشكر سعيهم وذكر ثوابهم العظيم.
· وعدم الوفاء بالنذر من خصال المنافقين المذمومة، بل هو من أسباب النفاق والعياذ بالله؛ كما قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: 75-77].
· في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - قال عمران: لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم يجيء قوم ينذرون ولا يَفُون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السِّمَن))؛فجعل من أول صفاتهم أنهم ينذرون ولا يوفون.
· نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن النذر وبيَّن أنه لا يأتي بخير ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: (( إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)) ).
· في رواية في صحيح مسلم: (( النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل)).
· وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدَر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل)).
· وفي مصنف ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إياكم والنذر؛ فإنَّ الله لا ينعم نعمة على الرُّشا، وإنما هو شيء يستخرج به من البخيل)).
· من نذر نذراً معلقا بشرط حصول نعمة أو اندفاع نقمة؛ فإنَّ النذرَ لا يغيّر من القَدَر شيئاً، وإنما يُستخرَجُ به ممَّن بخل على نفسه بالتقرب إلى الله تعالى، لأنه إذا حصلت هذه النعمة وجب عليه الوفاء وإلا ارتكب كبيرة من الكبائر بإخلاف وعدِه لله.
· وأما النذر غير المشروط، فهو الذي يُقصد به التعبّد والتقرّب بلا شرط؛ كأن يقول: لله عليَّ أن أعتكف ليلة، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: أن عمر قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: (( أوف بنذرك)).
· والنذر يجب الوفاء به سواء أكان مشروطاً أم غير مشروط، إذا كان طاعة لله جل وعلا.
في باب النذر مسائل مهمة محل بحثها كتب الفقه، لكن ملخصها:
· نذر الطاعة يجب الوفاء به ما لم يكن فيه مشقة فإن وجدت المشقة تحلل منه بكفارة يمين.
· نذر المعصية حرام، ولا يجوز الوفاء به، واختلف أهل العلم في وجوب الكفارة فيه على قولين مشهورين، والأرجح لزومها لأثر ابن عباس المتقدم.
· نذر المباح الذي ليس بقربة ولا محرم، كمن نذر ألا يأكل نوعاً من الأكل، أو نذر أن يشتري شيئاً مباحاً؛ فهذا يخير فيه الناذر بين الوفاء بنذره والتكفير عنه.
· من نذر نذراً فيما لا يملك فنذره باطل، لما في صحيح مسلم من حديث عمران بن الحصين أن امرأة نذرت أن تذبح العضباء لما نجت عليها من العدو؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( سبحان الله! بئسما جزتها، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد)).
· النذر غير المسمَّى كأن يقول: إن شُفيت فعليَّ نذر، ولا يُسَمِّي هذا النذر؛ فكفارته كفارة يمين؛ إلا إذا نوى تسمية النذر في نفسه نية جازمة ولم يتكلم به؛ ففيه خلاف بين أهل العلم، وأفتى بعض التابعين أن عليه الوفاء بما نوى.
· النذر الذي خرج مخرج اليمين كأن يقصد به التوكيد أو التصديق أو التكذيب فحكمه حكم اليمين فإن كان على خلاف ما ذكر فكفارته كفارة يمين.
· لا يشترط في النذر أن يكون بلفظ النذر، بل كل ما أدَّى معنى النذر فله حكمه.
شرح عبارات المتن
قوله:(وَدَلِيلُ الاسْتِعَانَةِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وَفِي الْحَدِيثِ: (( إذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ))
· أي الدليل على أن الاستعانة عبادة؛ وأنه يجب إخلاصها لله تعالى.
قوله: (وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿قلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾).
· الكلام في أحكام الاستعاذة كالكلام في أحكام الاستعانة.
· ﴿قل أعوذ﴾ الأمر بالاستعاذة دليل على أنها عبادة يحبها الله عز وجل؛ فيجب إخلاص هذه العبادة لله تعالى.
· الفلق اسم جامع لكل ما يُفلق، ومنه فلق الصبح، وفلق الحب والنوى، وفلق الأرض بالنبات، وفلق الأرحام بالأجنّة، وفلق الشدائد بالمخارج؛ فلا يملك هذا الفلق إلا الله تعالى وحده.
· لا يملك الفلق إلا ربُّ الفلق، فلا يخرج شيء من شيء إلا بإذنه، ولا يُفرج همّ إلا بإذنه، ولا تُزال حجب ما ينفع المرء إلا بإذن ربّ الفلق جل وعلا.
· الذي فلق للأجنّة مخرجاً من غير قوّة منها على ذلك ولا معرفة ولا تدبير لا يعجزه أن يفلق لك مخرجا مما أحاط بك من الهموم والشدائد وأنت تلجأ إليه.
· الفلَق فَعَلٌ بمعنى مفعول، كالسلب بمعنى المسلوب، والحلَب بمعنى المحلوب والحصب بمعنى المحصوب قال تعالى: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم﴾[الأنبياء: 98] أي تُحصب بهم جهنم كما يُحصب بالحجارة، وذلك دليل على أنهم يُقذفون فيها قذفاً شديداً.
قوله: (وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ الآية).
· لما منّ الله تعالى عليهم باستجابته لهم لمّا استغاثوه دلّ ذلك على أن الاستغاثة عبادة يحبّها الله ويرضاها فيجب إخلاصها لله تعالى.
· استغاثة العبادة يجب إخلاصها لله تعالى كما سبق بيانه في نظائره، وأمّا قوله تعالى: ﴿فاستغاثه الذي هو من شيعته على الذي من عدوّه﴾ [القصص: 15] فتلك استغاثة تسبب خالية من معاني التعبّد؛ كما سبق بيانه.
قوله: (وَدَلِيلُ الذَّبْحِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَـلاَتِي وَنُسُكِـي وَمَحْيَايَ وَمَمَـاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾، وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: (( لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ))).
· وجه الدلالة من الآية أن النسك هو الذبح على قول جماعة من الأئمة، وهو مما يشمله معنى الآية على القول الآخر.
· جاء النسك في هذه الآية في موضع المدح فدلّ على أنه عبادة يحبها الله تعالى فيجب إخلاصها له جلَّ وعلا.
· الحديث رواه مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: ( ودليل النذر قوله تعالى: ﴿يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا﴾).
· وجه الدلالة أن الله تعالى أثنى على عباده الذين يوفون بالنذر؛ فدلّ على أن النذر عبادة يجب إخلاصها لله تعالى.
· ﴿مستطيرا﴾ أي منتشراً فاشياً.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
ودليل الاستعانة قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 5]وفي الحديث: (( إذا استعنت فاستعن بالله )).
ودليل الاستعاذة قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾[الفلق: 1]وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[الناس: 1].
ودليل الاستغاثة قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ الآية [الأنفال: 9]. ودليل الذبح قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162، 163] ومن السنة: (( لعن الله من ذبح لغير الله )). ودليل النذر قوله تعالى: ﴿يُوْفُوْنَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾[الإنسان: 7].
عناصر الدرس:
· الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة
- معنى الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة
- بيان التناسب بين هذه العبادات
- تحقيق الاستعانة
- أنواع الاستعانة
· الذبح
- معنى الذبح
- أقسام الذبح
· النذر
- معنى النذر
- أقسام النذر
- فضل الوفاء بالنذر
- ملخص لأحكام النذر
الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة
· الاستعانة هي طلب الإعانة على تحصيل منفعة.
· والاستعاذة هي طلب الإعاذة من ضرّ يخشى وقوعه.
· والاستغاثة هي طلب الإغاثة لتفريج كربة، فالاستغاثة أخص منهما لأنها تكون عند الشدة.
· هذا الطلب يكون بالقلب والقول والعمل.
· الاستعانة أوسع هذه المعاني الثلاثة وهي عند الإطلاق تشملها جميعاً، فتكون الاستعاذة هي طلب الإعانة على دفع مكروه، والاستغاثة هي طلب الإعانة على تفريج كربة.
· الاستعانة بابها واسع وهي من أعظم العبادات وأجلها حتى إنها جعلت قسيمة العبادة في سورة الفاتحة وهي من العبادة لأهميتها فقال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5].
· الاستعانة بمعناها العام تشمل الدعاء والتوكل والاستعاذة والاستغاثة والاستهداء والاستنصار والاستكفاء وغيرها.
· بيان ذلك أن كل ما يقوم به العبد من قول أو عمل يرجو به تحصيل منفعة أو دفع مفسدة فهو استعانة.
· وحاجة العبد إلى الاستعانة بالله تعالى لا تعدلها حاجة، بل هو مفتقر إليه في جميع حالاته؛ فهو محتاج في كل أحواله إلى الهداية والإعانة عليها، ومحتاج إلى تثبيت قلبه على الحق، ومغفرة ذنبه وستر عيبه وحفظه من الشرور والآفات وقيام مصالحه.
· العبد حارث همام يجد في قلبه في كل وقت مطلوباً من المطلوبات يحتاج إلى الإعانة على تحقيقه.
· الله تعالى هو المستعان الذي بيده تحقيق النفع ودفع الضر، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو سبحانه.
· هذا الأمر تكرر تأكيده في القرآن العظيم في مواضع كثيرة:
- منها: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الأنعام: 17].
- وقوله: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[يونس: 17].
- وقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾[الزمر: 38].
- وقوله: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[فاطر: 2].
- وقوله: ﴿أمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾[الملك: 20، 21].
فالرزق هو جلب النفع، والنصر هو دفع الضر.
- وقوله: ﴿فابتغوا عند الله الرزق﴾[العنكبوت: 17].
- وقوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه﴾[الحجر: 21] وتقديم الظرف للحصر.
- وقوله: ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾[النجم: 42].
· قال ابن القيم رحمه الله: (﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه﴾[الحجر: 21] متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كلَّ شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه، وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه، وقوله: ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾[النجم: 42] متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يُرَد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع؛ فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها؛ فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه؛ فهو غاية كل مطلوب؛ وكل محبوب لا يحب لأجله؛ فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله؛ فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه؛ فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه)
· قال: (فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه﴾[الحجر: 21] واجتمع ما يراد له كله في قوله: ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾ [النجم: 42] فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى).
· قال: (وتحت هذا سرٌّ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقرُّ ولا يطمئنُّ ولا يسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد؛ فمراد لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين، كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين؛ فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعمته ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد)ا.هـ.
· المقصود أنه لا يحصل لعبد نفع في أمر من أمور دينه ودنياه إلا بالله جل وعلا، فهو المستعان وحده على كل ذلك.
· وكل سبب من الأسباب التي يبذلها العبد لتحقيق النفع أو دفع الضر لا يستقل بالمطلوب، فلا يوجد سبب مستقل بالمطلوب، بل لا بد أن يكون معه سبب مساعد ولا بد معه أيضاً من انتفاء المانع، ولا يكون كل ذلك إلا بإذن الله جل وعلا.
· من أبصر هذا حقيقةً أسلمَ قلبَه لله جل وعلا، وعَلِمَ أنه لا يكون إلا ما يشاء الله، وأن ما يطلبه من خير الدنيا والآخرة لا يناله إلا بإذن الله وهدايته ومشيئته، وأن لنيل ذلك أسباباً هدى الله إليها وبيَّنها.
· من كان على يقين بهذا قام في قلبه أنواع من العبودية لله جل وعلا من المحبة والرجاء والخوف والرغب والرهب والتوكل وإسلام القلب له جل وعلا والثقة به وإحسان الظن فيه.
· يجعل الله في قلب المؤمن بسبب هذه العبادات العظيمة من السكينة والطمأنينة والبصيرة ما تطيب به حياته وتندفع به عنه شرور كثيرة وآفات مستطيرة.
· الناس في العبادة والاستعانة على أقسام؛ فأفضلهم الذين أخلصوا العبادة والاستعانة لله تعالى فحققوا ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾[الفاتحة: 5] واستعانوا بالله تعالى على عبادة الله كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل أن يقول دبر كل صلاة: (( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)). رواه أحمد، وهؤلاء بأفضل المنازل.
· فَقِه معاذ بن جبل هذا الحديث أحسن الفقه؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن معاذٍ أنه قال: (أما أنا فأنام ثم أقوم فأقرأ فأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي). متفق عليه، ولهذا الخبر قصة يجدر الوقوف عليها.
· هذا أمر قد يغفل عنه كثير من الناس؛ فإن من أخلص قلبه لله جل وعلا جعل ما يفعله من المباحات سبباً للتقوي على طاعة الله جل وعلا وحسن عبادته حتى تكون حياته كلها لله كما قال الله تعالى لنبيه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162، 163].
· المسلمون يتفاضلون في هاتين الصفتين تفاضلاً عظيماً فهم على درجات فيهما لا يحصيهم إلا من خلقهم، فمن حقق إخلاص العبادة والاستعانة فهو سابق بالخيرات بإذن ربه.
· يكون لدى بعض الناس ضعف في إخلاص العبادة، وضعف في إخلاص الاستعانة.
· والتقصير في إخلاص العبادة تحصل بسببه آفات عظيمة تحبط العمل أو تنقص ثوابه كالرياء والتسميع وابتغاء الدنيا بعمل الآخرة، وأخف من هؤلاء من يؤدي هذه العبادات لله لكن لا يؤديها كما يجب؛ فيسيء فيها ويخلّ بواجباتها لضعف إخلاصه وقلة إيمانه.
· والتقصير في الاستعانة تحصل بسببه آفات عظيمة من الضعف والعجز والوهن فإن أصابه ما يحِبُّ فقد يحصل منه عجب واغترار بما يملك من الأسباب، وإن أصابه ما يكره فقد يبتلى بالجزع وقلة الصبر.
· وكلا التقصيرين لا يحصل لصاحبه طمأنينة قلب ولا سكينة نفس ولا تطيب حياته حتى يحقق هذين الأمرين.
تحقيق الاستعانة
· تحقيق الاستعانة يكون بأمرين:
- أحدهما: التجاء القلب إلى الله تعالى والإيمان بأن النفع والضر بيده جل وعلا وأنه مالك الملك ومدبر الأمر، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه سميع عليم وقريب مجيب، فيستعين به راجياً إعانته.
- والآخر: بذل الأسباب التي هدى الله إليها وبينها، فيبذل في كل مطلوب ما أذن الله تعالى به من الأسباب.
· هذان الأمران أرشد إليهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز))
- الحرص على ما ينفع عام في أمور الدين والدنيا.
- والاستعانة بالله تكون بطلب عونه وتأييده وتحقيق ما ينفع.
- والعجز هو: ترك بذل السبب مع إمكانه؛ فنُهي عنه.
· رتَّب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات الثلاث ترتيباً بديعاً لتوافق الحال؛ فإن معرفة المطلوب ومعرفة نفعه والحرص عليه سابقة للاستعانة على تحقيقه، ثم تكون الاستعانة مرتبة بعدها؛ فيطلب العبد العون من ربه جل وعلا على تحقيق ما ينفعه وأن يهديه لتحصيله من الوجه الذي يحبه ويرضاه، ثم يبذل الأسباب التي أذن الله بها.
· إذا قام العبد بهذه الأمور فقد حقق الاستعانة؛ فإن تحقق له ما يطلب كان من الشاكرين، وإن أصابه ما يكره من فوات مطلوبه قال: (( قدر الله وما شاء فعل)) فصبر لذلك وأحسن الظن بالله، ورجا أن يعوضه ربه خيراً فيما فاته، والله تعالى كريم لا يضيع أجر العاملين، ولا يخيب رجاء من صدق الرجاء فيه.
· وأما ترك الأخذ بالأسباب فهو عجز مذموم، كما أن تعلق القلب بها شرك مذموم.
أنواع الاستعانة
· أفضل أنواع الاستعانة وأكملها وأحبها إلى الله الاستعانة بالله على طاعة الله، وكلما كان المؤمن أشد حباً لله ورجاء في فضله وخوفاً من سخطه وعقابه كان على هذا الأمر أحرص، وعرف أن حاجته إليه أشد.
· والمؤمن مأمور بأن يستعين الله تعالى في جميع شؤونه حتى في شسع نعله فإنه إذا لم ييسره الله لم يتسير، وقد روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مختلف في صحته، ومعناه صحيح، وقد أمر الله تعالى بالسؤال من فضله فقال: ﴿واسألوا الله من فضله﴾[النساء: 32] وهو يشمل فضله في الدنيا والآخرة.
· من الناس من يغلب عليه الاستعانة بالله لتحقيق المطالب الدنيوية حتى تشغله عن المطالب الأخروية فإن تحقق له ما يطلب من أمور الدنيا فرح به، وإن حُرمه ابتلاء واختباراً جزع وسخط؛ فهذا النوع في قلوبهم عبودية للدنيا، وقد تُعجَّل لهم مطالبهم فتنة لهم ثم تكون عاقبتهم سيئة.
· سبب ذلك أنهم شابهوا الكفار فيما ذمهم الله به؛ فقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) ﴾[الإسراء: 18-21].
· وقال: ﴿من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب﴾[الشورى: 20].
· وقال: ﴿من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار﴾ [هود: 15، 16]
· أصل بلاء الكفار إيثارهم الحياة الدنيا على الآخرة كما قال تعالى: ﴿بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى﴾[الأعلى: 16، 17] وقال: ﴿وويل للكافرين من عذاب شديد (2) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة﴾[إبراهيم: 2، 3]. وقال:﴿فأما من طغى (37) وآثر الحياة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) ﴾[النازعات: 37-39].
· الناس في إرادة الدنيا على ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة إيثاراً مطلقاً فهي همهم ولأجلها عملهم؛ فهؤلاء هم الكفار الذين عناهم الله تعالى في الآيات السابقة، ويلتحق بهم كل من ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام بسبب إيثاره للحياة الدنيا، والعياذ بالله.
- القسم الثاني: الذين لديهم نوع إيثار للحياة الدنيا حملهم على ترك بعض الواجبات واقتراف بعض المحرمات فهؤلاء هم أهل الفسق من المسلمين.
- القسم الثالث: الذين استعانوا بأمور الدنيا على ما ينفعهم في الآخرة،فأخذوا منها ما يستعينون به على إعفاف أنفسهم والتقوي على طاعة الله؛ فهؤلاء هم الناجون السعداء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنها: (( نعم المال الصالح للرجل الصالح)). رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
أقسام الاستعانة
· الاستعانة على قسمين:
- القسم الأول: استعانة العبادة، وهي التي يصاحبها معانٍ تعبدية تقوم في قلب المستعين من المحبة والخوف والرجاء والرغب والرهب فهذه عبادة لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، ومن صرفها لغيره فهو مشرك كافر.
قال الله تعالى فيما علّمه عباده المؤمنين: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 5]؛ وتقديم المعمول يفيد الحصر، فيستعان بالله جل وعلا وحده، ولا يستعان بغيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (( وإذا استعنت فاستعن بالله)) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وكذلك استعاذة العبادة واستغاثة العبادة فإنه لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل؛ فمن صرفها لغير الله عز وجل فهو مشرك شركاً أكبر مخرج عن الملة والعياذ بالله كما يفعله عباد القبور والأولياء فإنه يقوم في قلوبهم من العبوديات لمن يدعونهم ويستعينون بهم ويستعيذون بهم ويستغيثون بهم ما هو من أعظم الشرك والكفر بالله جل وعلا.
الاستعانة ملازمة للعبادة فكل عابد مستعين؛ فإنه لم يعبده إلا ليستعين به على تحقيق النفع ودفع الضر.
- القسم الثاني: استعانة التسبب، وهو بذل السبب رجاء نفعه في تحصيل المطلوب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
هذه الاستعانة ليس فيها معانٍ تعبدية وهي كما يستعين الكاتب بالقلم على الكتابة؛ وكما يستعين على معرفة الحق بسؤال أهل العلم.
· استعانة التسبب حكمها بحسب حكم السبب وحكم الغرض فإذا كان الغرض مشروعاً والسبب مشروعاً كانت الاستعانة مشروعة، وإذا كان الغرض محرماً أو كان السبب محرماً لم تجز تلك الاستعانة، فإن تعلق القلب بالسبب كان ذلك شركاً أصغر من شرك الأسباب.
· الاستعانة المشروعة: هي بذل الأسباب المشروعة لتحقيق المطالب المشروعة؛ كالاستعانة على إعفاف النفس بالكسب الطيب والزواج، والاستعانة على دفع المرض بالدواء واختيار الطبيب الحاذق ونحو ذلك فهذه استعانة تسبب مشروعة وقد تجب في أحوال.
· لكن إذا تعلق القلب بالسبب كتعلق المريض بالطبيب فهذا من شرك الأسباب كما سبق إيضاحه.
· ومثال الاستعانة المحرّمة: الاستعانة بالحيل المحرمة على الكسب غير المشروع.
· الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة من المسائل المهمة التي تتعلق بها حاجة العبد في جميع أحواله.
· قال الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة: 45].
- الاستعانة هنا بالصبر والصلاة هي من باب استعانة التسبب؛ فالصبر والصلاة سببان عظيمان للاستقامة على دين الله جل وعلا والفوز بفضله ورضوانه وهما أصل كل خير.
· وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ستكون فِتَن، القاعِدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من السَّاعي، مَنْ تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفْهُ، ومَن وَجَدَ مَلْجأ أو مَعاذا فَلْيَعُذْ به))، وفي رواية عند مسلم: (( فليستعذ)) ومعناهما واحد، والمقصود الاستعاذة بهذه الأسباب من الوقوع في تلك الفتن؛ فهي استعاذة تسبب، والكلام في الاستعاذة والاستعانة واحد.
الذبح
· الذبح المراد به ذبح القرابين من الأنعام.
· والذبح من الشعائر التعبدية الظاهرة فيفعله الموحدون لله جل وعلا، ويفعله المشركون تقرباً إلى معبوداتهم الباطلة لجلب النفع أو دفع الضر أو طلب الشفاعة أو الشكر.
· والذبح على قسمين: ذبح فيه معنى التعبّد، وذبح ليس فيه معنى التعبّد.
· أمّا الذبح الذي يكون فيه معنى التعبّد فهو ما أهلّ به لغير الله؛ إمّا بذكر اسم المذبوح له عند الذبح أو بقصد التقرب للمذبوح له.
· من الذبح التعبّدي: ذبح الهدي والأضاحي والنذور؛ فهذا الذبح عبادة صرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
· يجب على العبد أن لا يذبح إلا باسم الله تعالى،قال الله تعالى:﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾[الكوثر:2]
· النحر يكون للإبل، والذبح للبقر والغنم، وحكمهما واحد.
· وقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾[الأنعام: 162، 163].
· قوله: ﴿وَنُسُكِي﴾: النُّسُك هو كل ما يُتعبَّد به، وأشهر ما يطلق عليه لفظ النسك: الذبح، وبه فسَّر هذه الآية جماعة من السلف منهم مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة.
· النَّسيكة في اللغة: الذبيحة، وجَمْعُها نُسُك وَنَسَائِك.
· فالذبح الذي يكون على وجه التقرب أو يذكر عليه اسمٌ: عبادة من صرفه لغير الله جل وعلا فهو مشرك كافر سواء أكان المذبوح من بهيمة الأنعام أم غيرها.
· السبب في ذلك أن الذابح إذا أهلَّ باسم غير الله فقد أشرك به، وإذا قصد تقديم هذه الذبيحة قُرْباناً لغير الله جل وعلا فهو مشرك كافر بهذا التقرب.
· الذبح من الشعائر التعبدية الظاهرة؛ وكان من مظاهر الشرك المعروفة لدى المشركين أنهم يذبحون لمعبوداتهم تقرباً بين يدي حوائجهم أو شكراً، ولا يزال هذا في المشركين إلى اليوم.
· مِنَ المشركين مَنْ إذا عجز عن تقريب شيء من بهيمة الأنعام قرَّب دجاجة أو حيواناً صغيراً أو شيئاً حقيراً، وكل ما تقرب به إلى غير الله جل وعلا على وجه التعبد فهو شرك أكبر.
· لحرمة هذا الأمر حُرِّمَ أن يذبح المسلم في المكان الذي يُذبح فيه لغير الله جل وعلا؛ ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود وابن ماجه من حديث ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه وهو ممن بايع تحت الشجرة، قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببُوانَةَ؛فأتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة)؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعْبَد؟))
قالوا: لا.
قال:(( هل كان فيها عيد من أعيادهم؟))
قالوا: لا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)).
- هذا الرجل الناذرُ اسمُه كردم اليساري رضي الله عنه كما في مصنف ابن أبي شيبة ومسند الإمام أحمد عن ابنته ميمونة رضي الله عنها أنها كانت حاضرة سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم.
· بل حرِّم أكلُ ما لم يذكر اسم الله عليه كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 121]، فما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه،والميتة التي تموت ولم تذبح ويسمى الله عليها حرام لا يجوز أكلها.
· وأما من نسي التسمية من المسلمين فذبح ولم يسمِّ نسياناً فقد اختلف أهل العلم في حلِّ ذكاته على ثلاثة أقوال أصحها وهو قول جمهور الأئمة جواز أكلها لأنه لم يتركها عمداً وإنما نسي التسمية ولو ذكرها لم يتركها، وقد قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286].
- حكى ابن جرير الإجماع على جواز أكلها واعتبر ما روي عن ابن سيرين من المنع شاذاً.
- وأما من ترك التسمية عامداً فجمهور أهل العلم على أن ذبيحته لا تؤكل.
- كلّ ذبح ذكر عليه اسم عند الذبح فهو عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى.
· القسم الثاني: الذبح الذي لا يكون فيه معنى التعبد، وإنما يذبح للَّحم أو لغرض آخر لا يكون فيه معنى التقرب ولا يكون معه تسمية.
- هذا النوع من الذبح ليس بعبادة، ولا يحلُّ أكله لأجل أنه لم يذكر اسم الله عليه.
- ومن هذا النوع ذبائح الكفار التي يذبحونها للَّحم ولا يسمون عليها.
· ومن هذا النوع أيضاً: العقر الجاهلي، وهو ذبح البهيمة عند قبر الميت، وهو من أعمال الجاهلية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا عقر في الإسلام)) رواه أبو داوود وأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
· وأهل الجاهلية الأولى ومن شابههم لهم في ذلك اعتقادات باطلة فيعقرون على الميت إما جزعاً، أو لاعتقاد أن الميت يبعث عليها، أو لأنه جواد كريم فيكرَّم بهذه العقيرة بعد موته كما كان يكرم أضيافه، وكل هذه الاعتبارات باطلة والذبح بسببها محرم، وهو من إتلاف المال المحرم.
· ومن فعله من أهل الإسلام فقد شابَه أهل الجاهلية في هذا الفعل وذبيحته محرمة ولا نقول إنها شرك لأنه لم يذبح باسم غير الله ولم يتقرب بذلك إلى غير الله، كما روى الوالبي عن مجنون ليلي وهو قيس بن الملوح أنه لما أتاه خبر موت أبيه عقر ناقته على قبره، وقال في ذلك:
عقرت على قبر الملوّح ناقتي ... بذي الرمث لما أن جفاه أقاربه
فقلت لها كوني عقيراً فإنني ... غداة غدٍ ماش وبالأمس راكبه
· من العرب من يَعْقِلُ الناقة عند قبر الميت فيتركها لا تُعلف ولا تسقى حتى تموت، ويسمونها البَلِيَّة، كما قال لبيد:
تأوي إلى الأطناب كل رذيَّة ... مثل البليَّة قالص أهدامها
- يقول: إنه من كَرَمه أن بيته مأوى لكل رَذيَّة وهي المرأة الهزيلة التي قلصت ملابسها عنها من المجاعة حتى أشبهت البليَّة لما أصابها من الجَهْد والمشقة.
· وقال الحارث بن حلزة اليشكرى يصف معالجته للهمّ بركوب ناقته:
أتلهَّى بها الهواجرَ إذ كلّ ... ابنِ همٍّ بليَّةٌ عمياء
- أي إذا كان صاحب الهمّ مكباً على نفسه منهمكا في همّه كالبلية العمياء حتى يقضي عليه همُّه؛ فإني أمضي الهمّ بركوب ناقتي في هاجرة الظهيرة وألهو بها حتى يذهب همي.
· والمقصود أن الذبح إذا لم يحمل معاني تعبدية بحيث لا يذكر عليه اسم ولا يتقرب به إلى أحد فليس من ذبح العبادة، ولا يحلّ أكله، ومن ذلك ذبح الإتلاف، وقتل البعير الهائج دفاعاً عن النفس فإنّه إذا لم يسمّ فيهما؛ ففعله ليس فيه معنى العبادة، ولا يجو أكله لترك التسمية.
النذر
· النذر في لسان العرب: الإيجاب، فمن نذر شيئاً على نفسه فقد أوجبه عليها وألزمها به.
· قال عنترة:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمَي عرضي ولم أشتمهما ... والناذِرَين إذا لم ألقهما دمي
· أي: أنهما أوجبا على أنفسهما قتله، وكان بعض العرب يفعلون ذلك فينذرون دماء من يريدون قتلهم ثأراً، ويعلنون ذلك؛ فمن وَفَّى بنذره افتخر بذلك، ومن حار نذره كان ذلك عاراً عليه، كما قال بشر بن أبي خازم الأسدي:
حارَ نذرُك يابنَ سعدى ... وحق لنذر مثلك أن يحور
· وقال مزرّد الغطفاني يصف شدة جري حصانه:
يرى الشدَّ والتقريب نذراً إذا عدا ... وقد لحقت بالصلب منه الشواكل
- الشدّ: هو إحضار الجهد عند الجري، ولذلك يسمَّى إحضاراً أيضاً، والتقريب: مقاربة الشدّ والإحضار، فهو دونه.
- والصلب: الظهر، والشواكل: جمع شاكلة وهي ما رقَّ من لحم البطن مما يلي الخاصرتين.
- معنى بيت مزرّد: أن حصانه من أصالته وقوة شكيمته إذا جرى يرى أن شدة العدو أو مقاربة الشد فرض واجب عليه لا يرضى لنفسه بأقل منه، بمنزلة النذر الذي قطعه على نفسه ولزمه الوفاء به.
· ومعنى النذر في الشرع هو معناه في اللغة: فما أوجبه العبد على نفسه لله جل وعلا سمي نذراً، ولذلك فهو عبادة، فمن تعبد بهذا النذر لغير الله جل وعلا فقد أشرك الشرك الأكبر والعياذ بالله.
· يدخل في ذلك كل عبادة يوجبها العبد على نفسه من العبادات المشروعة في الأصل كالصلاة والصدقة والصيام والتلاوة وغيرها.
· أكثر ما يكون تقديم النذور في الصدقات، وتسمى تلك الصدقة المنذورة: نذيرة وجمعها نُذُور ونذائر؛ فلذلك قد يُطلق هذا اللفظ إطلاقاً خاصاً على الصدقات.
· النذر من شعائر التعبد الظاهرة، ولذلك يفعله الموحدون لله جل وعلا، ويفعله المشركون تقرباً لما يعبدونه من دون الله جل وعلا، تعالى الله عما يشركون.
· المشركون يقدمون تلك النذور بين يدي حوائجهم عند طلب الشفاعة وسؤال الحاجات أو شكراً بعد حصول نعمة أو ارتفاع بلاء؛ فمن نذر لغير الله جل وعلا فقد أشرك سواء أكان النذر بين يدي طلب الحاجة أم شكراً، لما في ذلك من معنى التعبد.
· وقد يطلق لفظ النذر على مطلق إيجاب الفعل دون إرادة معنى التعبد كأن يَنذُرَ ألا يكلّم فلاناً، أو لا يأكل نوعاً من الأكل، فهذا يطلق عليه لفظ النذر لكنه ليس فيه معنى التعبد.
· قد يكون هذا النذر في معصية كأن ينذر أخذ مال رجل بغير وجه حق أو ينذر سفك دمه أو ينذر التفريق بين زوجين ونحو ذلك فهذا كله محرم ولا يجوز الوفاء به.
· قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها.
أقسام النذر
· النذر له تقسيمات باعتبارات مختلفة، فيقسم باعتبار حقيقته إلىنذر عبادة ونذر إلزام مجرد من معنى العبادة، وهذا هو موضوعنا:
- فالقسم الأول: نذر العبادة وهو الذي يحمل معاني التعبد فيكون بقصد التقرب بين يدي الحاجة أو الشكر فهذا عبادة من صرفه لغير الله جل وعلا فهو مشرك شركاً أكبر مخرجاً عن الملة والعياذ بالله.
من النذر الشركي ما يفعله المشركون من تقديم القرابين والنذور فيأتي أحدهم بشيء ولو حقير ينذره لقبر الولي عند طلب الحاجة أو شكراً فهذا شرك أكبر والعياذ بالله، وإن لم يكن فيه لفظ النذر، فالعبرة بحقيقة الحال.
- القسم الثاني: النذر الذي يراد به الإلزام المجرد عن معاني التعبد كأن ينذر ألا يكلم فلاناً وإن لم يكن فيه لفظ النذر، كأن يقول رجل لابنه لئن لم تأتني فكلامك علي حرام، أو لا أكلمك أبداً، أو لأضربنك مائة سوط، ونحو ذلك، فهذا يسمى نذراً لأنه ألزم نفسه به، وليس فيه معنى التعبد.
- لكن لو قال: لِلْوَلِيِّ الفلاني عليَّ نذر أن لا أكلمك، فهذه عبادة لأنه قصد بهذا النذر التقرب لذلك الولي؛ فيكون بذلك مشركاً والعياذ بالله.
تقسيمات أخرى للنذر
· ويقسم النذر باعتبار تعليقه بشرط إلى نذر مشروط ونذر غير مشروط.
· فالنذر المشروط هو الذي علَّقه الناذر على شرط إن تحقق هذا الشرط ألزم نفسه بالنذر، وإن لم يتحقق لم يلزمه، كأن يقول: (لله علي إن برئت من مرضي أن أصوم شهراً)؛ فإذا برئ لزمه الوفاء بنذره.
· يجب الوفاء بالنذر ما لم يكن في الوفاء به مشقة ظاهرة فحينئذ يتحلل منه بكفارة يمين لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (من نذر نذراً لم يسمّه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين). رواه أبو داوود مرفوعا، وقال ابن حجر: وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه.
· في هذا الباب أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ومسائل محل بحثها ودراستها كتب الفقه، لكن أنبه إلى أن الوفاء بالنذر شأنه عظيم، وإخلافه كبيرة من الكبائر.
فضل الوفاء بالنذر
· مدح الله عباده الذين يوفون بالنذر فقال: فقال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) ﴾ [الإنسان: 5-12].
· فجعل من أول صفاتهم أنهم يوفون بالنذر؛ والوفاء بالنذر في هذه الآية يشمل أداء الفرائض التي أوجبها الله عليهم، وما أوجبوه على أنفسهم تقرباً لله جل وعلا.
· قال ابن كثير: (وقوله: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإنسان: 7] أي: يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر).
· وقال تعالى في الحجاج: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ(29)﴾[الحج: 29]؛ قال مجاهد:( ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾: نذر الحجّ والهَدي، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحجّ).
﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ اللام هنا للأمر.
· الوفاء بالنذر من صفات الأبرار الذين مدحهم الله عز وجل وشكر سعيهم وذكر ثوابهم العظيم.
· وعدم الوفاء بالنذر من خصال المنافقين المذمومة، بل هو من أسباب النفاق والعياذ بالله؛ كما قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: 75-77].
· في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - قال عمران: لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم يجيء قوم ينذرون ولا يَفُون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السِّمَن))؛فجعل من أول صفاتهم أنهم ينذرون ولا يوفون.
· نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن النذر وبيَّن أنه لا يأتي بخير ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: (( إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)) ).
· في رواية في صحيح مسلم: (( النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل)).
· وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدَر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل)).
· وفي مصنف ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إياكم والنذر؛ فإنَّ الله لا ينعم نعمة على الرُّشا، وإنما هو شيء يستخرج به من البخيل)).
· من نذر نذراً معلقا بشرط حصول نعمة أو اندفاع نقمة؛ فإنَّ النذرَ لا يغيّر من القَدَر شيئاً، وإنما يُستخرَجُ به ممَّن بخل على نفسه بالتقرب إلى الله تعالى، لأنه إذا حصلت هذه النعمة وجب عليه الوفاء وإلا ارتكب كبيرة من الكبائر بإخلاف وعدِه لله.
· وأما النذر غير المشروط، فهو الذي يُقصد به التعبّد والتقرّب بلا شرط؛ كأن يقول: لله عليَّ أن أعتكف ليلة، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: أن عمر قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: (( أوف بنذرك)).
· والنذر يجب الوفاء به سواء أكان مشروطاً أم غير مشروط، إذا كان طاعة لله جل وعلا.
في باب النذر مسائل مهمة محل بحثها كتب الفقه، لكن ملخصها:
· نذر الطاعة يجب الوفاء به ما لم يكن فيه مشقة فإن وجدت المشقة تحلل منه بكفارة يمين.
· نذر المعصية حرام، ولا يجوز الوفاء به، واختلف أهل العلم في وجوب الكفارة فيه على قولين مشهورين، والأرجح لزومها لأثر ابن عباس المتقدم.
· نذر المباح الذي ليس بقربة ولا محرم، كمن نذر ألا يأكل نوعاً من الأكل، أو نذر أن يشتري شيئاً مباحاً؛ فهذا يخير فيه الناذر بين الوفاء بنذره والتكفير عنه.
· من نذر نذراً فيما لا يملك فنذره باطل، لما في صحيح مسلم من حديث عمران بن الحصين أن امرأة نذرت أن تذبح العضباء لما نجت عليها من العدو؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( سبحان الله! بئسما جزتها، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد)).
· النذر غير المسمَّى كأن يقول: إن شُفيت فعليَّ نذر، ولا يُسَمِّي هذا النذر؛ فكفارته كفارة يمين؛ إلا إذا نوى تسمية النذر في نفسه نية جازمة ولم يتكلم به؛ ففيه خلاف بين أهل العلم، وأفتى بعض التابعين أن عليه الوفاء بما نوى.
· النذر الذي خرج مخرج اليمين كأن يقصد به التوكيد أو التصديق أو التكذيب فحكمه حكم اليمين فإن كان على خلاف ما ذكر فكفارته كفارة يمين.
· لا يشترط في النذر أن يكون بلفظ النذر، بل كل ما أدَّى معنى النذر فله حكمه.
شرح عبارات المتن
قوله:(وَدَلِيلُ الاسْتِعَانَةِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وَفِي الْحَدِيثِ: (( إذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ))
· أي الدليل على أن الاستعانة عبادة؛ وأنه يجب إخلاصها لله تعالى.
قوله: (وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿قلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾).
· الكلام في أحكام الاستعاذة كالكلام في أحكام الاستعانة.
· ﴿قل أعوذ﴾ الأمر بالاستعاذة دليل على أنها عبادة يحبها الله عز وجل؛ فيجب إخلاص هذه العبادة لله تعالى.
· الفلق اسم جامع لكل ما يُفلق، ومنه فلق الصبح، وفلق الحب والنوى، وفلق الأرض بالنبات، وفلق الأرحام بالأجنّة، وفلق الشدائد بالمخارج؛ فلا يملك هذا الفلق إلا الله تعالى وحده.
· لا يملك الفلق إلا ربُّ الفلق، فلا يخرج شيء من شيء إلا بإذنه، ولا يُفرج همّ إلا بإذنه، ولا تُزال حجب ما ينفع المرء إلا بإذن ربّ الفلق جل وعلا.
· الذي فلق للأجنّة مخرجاً من غير قوّة منها على ذلك ولا معرفة ولا تدبير لا يعجزه أن يفلق لك مخرجا مما أحاط بك من الهموم والشدائد وأنت تلجأ إليه.
· الفلَق فَعَلٌ بمعنى مفعول، كالسلب بمعنى المسلوب، والحلَب بمعنى المحلوب والحصب بمعنى المحصوب قال تعالى: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم﴾[الأنبياء: 98] أي تُحصب بهم جهنم كما يُحصب بالحجارة، وذلك دليل على أنهم يُقذفون فيها قذفاً شديداً.
قوله: (وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ الآية).
· لما منّ الله تعالى عليهم باستجابته لهم لمّا استغاثوه دلّ ذلك على أن الاستغاثة عبادة يحبّها الله ويرضاها فيجب إخلاصها لله تعالى.
· استغاثة العبادة يجب إخلاصها لله تعالى كما سبق بيانه في نظائره، وأمّا قوله تعالى: ﴿فاستغاثه الذي هو من شيعته على الذي من عدوّه﴾ [القصص: 15] فتلك استغاثة تسبب خالية من معاني التعبّد؛ كما سبق بيانه.
قوله: (وَدَلِيلُ الذَّبْحِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَـلاَتِي وَنُسُكِـي وَمَحْيَايَ وَمَمَـاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾، وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: (( لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ))).
· وجه الدلالة من الآية أن النسك هو الذبح على قول جماعة من الأئمة، وهو مما يشمله معنى الآية على القول الآخر.
· جاء النسك في هذه الآية في موضع المدح فدلّ على أنه عبادة يحبها الله تعالى فيجب إخلاصها له جلَّ وعلا.
· الحديث رواه مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: ( ودليل النذر قوله تعالى: ﴿يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا﴾).
· وجه الدلالة أن الله تعالى أثنى على عباده الذين يوفون بالنذر؛ فدلّ على أن النذر عبادة يجب إخلاصها لله تعالى.
· ﴿مستطيرا﴾ أي منتشراً فاشياً.