هيئة الإشراف
_10 _January _2014هـ الموافق 10-01-2014م, 06:19 PM
الدرس الثاني عشر: مرتبة الإيمان (1/2)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ
وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أعْلاَهَا قَوْلُ لاَ إِلهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ.
وَأَرْكَانُهُ سِتَّةٌ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ الآية [البقرة:177].
وَدَلِيلُ الْقَدَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر:49]).
عناصر الدرس:
· بيان معنى الإيمان
· درجات الإيمان
· معنى شعب الإيمان
· أركان الإيمان
· أدلة أركان الإيمان
· الركن الأول: الإيمان بالله تعالى
... - مراتب الإيمان بالله تعالى
قوله: (الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ).
· المرتبة الثانية من مراتب دين الإسلام هي مرتبة الإيمان.
· وهذه المرتبة أخص من سابقتها، فإيمان أصحابها أعظم من إيمان أصحاب المرتبة السابقة، فهم مسلمون مؤمنون، ولذلك يقال: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن.
· الإيمان عند أهل السنة والجماعة: اعتقاد بالجَنان وقول باللسان وعمل بالأركان.
- الجَنان: هو القلب، والأركان هي: الجوارح كالحواس والأطراف وغيرها.
· ومن أهل العلم من يختصر العبارة فيقول:الإيمان قول وعمل.
- فيقصد بالقول: قول القلب أي تصديقه، وقول اللسان.
- ويقصد بالعمل: عمل القلب وهو العبادات القلبية من المحبة والخوف والرجاء والخشية والرغبة والرهبة والإنابة وغيرها، وعمل الجوارح يشمل البصر والسمع والمشي والتناول والنكاح وغيرها.
· المؤمنون يتفاضلون في الأقوال والأعمال، ولذلك يتفاضلون في الإيمان.
· الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة، وينقص بفعل المعصية وبترك الطاعات، كما قال الله تعالى: ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر: 31]، وقال: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال: 2]، وقال: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4].
· يزيد الإيمان بالطاعة وهي امتثال الأمر واجتناب النهي؛ فكلما امتثل أمر وجوب أو استحباب زاد إيمانه، وكلما اجتنب محرماً أو مكروها احتساباً زاد إيمانه.
· والمسلم هو الذي أتى بأصل الإيمان، وقد يأتي بالقدر الواجب منه، وقد يأتي بالكمال المستحب، وقد يقع في الذنوب والمعاصي والكبائر فينقص إيمانه بسبب ذلك.
· الإيمان على ثلاث درجات:
- الدرجة الأولى: درجة أصل الإيمان، ويسمى مطلق الإيمان، وهو ما يصح به إسلام العبد؛ فهذا يسمى به مسلماً، وإن كان معه أصل الإيمان، لكن لا يقال هو مؤمن لأن هذا فيه تزكية له لم يبلغها؛ فلا ينفى عنه أصل الإيمان ولا يثبت له وصف حقيقة الإيمان.
قال ابن القيم: (كما أن الرجل يكون معه جزء من العلم والفقه ولا يسمى به عالما فقيها).
وبيان ذلك أنه لا يصح إسلام العبد حتى يشهد الشهادتين، وهذا يستلزم الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم والإتيان بأركان الإسلام الظاهرة، ولا يُتصور أن يشهد أن لا إله إلا الله وهو لم يؤمن بالله.
ولا يكون مسلماً حتى يجتنب نواقض الإسلام، ومن ذلك أنه يصدّق بخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا قَدْر من الإيمان لا يصح الإسلام إلا به.
ومن هذه الطبقة أصحاب الكبائر من المسلمين، فإن معهم أصل الإيمان وهم قد حققوا الدرجة الأولى من درجات العبودية لله تعالى فاجتنبوا الشرك الأكبر واجتنبوا نواقض الإسلام.
فأصحاب هذه الدرجة لا نكفرهم كما تفعل الخوارج، ولا نقول إنهم بمنزلة بين المنزلتين أي بين الإسلام والكفر كما تقول المعتزلة، بل هم مسلمون ومعهم أصل الإيمان، لكنهم لم يحققوا الإيمان الواجب، ففيهم إيمان وفيهم فسق بسبب عصيانهم.
يُسمى صاحب هذه المرتبة عند بعض أهل العلم بالفاسق الملّي، أي أنه فاسق، وهو على ملة الإسلام.
وهؤلاء نحبهم لإسلامهم ونبغضهم لعصيانهم؛ فيجتمع في حقهم الحب والبغض، كما جمعوا بين الإيمان والعصيان.
والتعامل معهم يكون على ما تقتضيه أحكام الشريعة؛ فيهجر بعضهم في مواضع الهجر، ويتألَّف بعضهم، ويناصحون ويدعى لهم بالهداية، ونحب لهم الخير ونكره لهم البقاء على العصيان.
- الدرجة الثانية: درجة كمال الإيمان الواجب؛ فمن حقق الإيمان الواجب بأداء الواجبات واجتناب المحرمات إيماناً واحتساباً فهو مؤمن.
- الدرجة الثالثة: درجة كمال الإيمان المستحب، وتشمل الإيمان الواجب والمستحب، وأصحاب هذه الدرجة هم المحسنون؛ فإنهم تقربوا إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل واجتنبوا المحرمات والمكروهات، وحققوا الإيمان بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم؛ فكان سعيهم لله، وهذا السعي يشمل الحب والبغض والعطاء والمنع، وهذه جوامع خصال الإيمان؛ كما في سنن أبي داوود وغيره من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان))
- قال ابن القيم رحمه في إغاثة اللهفان شارحاً هذا الحديث: (فإن الإيمان علم وعمل والعمل ثمرة العلم وهو نوعان: عمل القلب حبا وبغضا ويترتب عليهما عمل الجوارح فعلا وتركا وهما العطاء والمنع؛ فإذا كانت هذه الأربعة لله تعالى كان صاحبُها مستكملَ الإيمان وما نقص منها فكان لغير الله نقص من إيمانه بحسبه).
- والحب لله أعم من الحب في الله، فهو يشمل محبة كل ما يُحَبّ لله جل وعلا من الأشخاص والأعمال والأقوال والأحوال والمقاصد والأخلاق والأمكنة والأزمنة وغيرها.
- وكذلك العطاء لله أعمّ من أن يكون المراد به عطاء المال، بل هو شامل لكل ما يُعطى من مال وجاه وعلم وجهد ووقت، وكذلك المنع.
- فمن كان حبه لله، وبغضه لله، وعطاؤه لله، ومنعه لله، فهو مؤمن مستكمل الإيمان؛ نسأل الله تعالى من فضله.
· والمقصود: أن الإيمان على ثلاث درجات: درجة أصل الإيمان، ودرجة الإيمان الواجب، ودرجة كمال الإيمان؛ فالدرجة الأولى هي: مرتبة الإسلام، والدرجة الثانية: مرتبة الإيمان، والدرجة الثالثة: مرتبة الإحسان.
· فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً.
· وكان بعض السلف يوضح هذا الأمر برسم بياني كما روي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه رسم دائرة واسعة وقال: هذا الإسلام، ثم رسم دائرة في وسطها أصغر منها وقال: وهذا الإيمان، ثم قال: (فإذا زنا وسرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله عز وجل). رواه عبد الله بن الإمام أحمد وابن منده والآجري واللالكائي.
- قال ابن منده: (وهذا مذهب جماعة من أئمة الآثار واحتجوا بخبر عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة رضي الله عنهم).
· وقال ابن تيمية في رسالته قاعدة في المحبة: (قول النبي صلى الله عليه وسلم:(( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) على بابه، لو كان بغضه لما أبغضه الله من هذه الأفعال تامَّا لما فعلها؛ فإذْ فعلها فإمَّا أن يكون تصديقه بأن اللهَ يبغضها فيه ضعف، أو نَفْسُ بغضِهِ لما يبغضه الله فيه ضعف، وكلاهما يمنع تمام الإيمان الواجب)
· وهذا التفريق بين الإسلام والإيمان استُدِل له بآيات من القرآن الكريم:
· منها قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14]، وهذه الآية للسلف في تفسيرها قولان مشهوران:
· القول الأول: أن الإسلام المثبَت لهم هو مرتبة الإسلام، وأنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان، وهو قول الزهري وإبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل واختاره ابن جرير وابن تيمية وابن كثير وابن رجب.
· القول الثاني: أن الإسلام المثبَت لهم هو الإسلام الظاهر الذي لا يقتضي أن يكون صاحبه مسلماً حقاً في الباطن، وذلك كما يحكم لأهل النفاق بالإسلام الظاهر، وإن كانوا كفاراً في الباطن؛ لأن التعامل مع الناس هو على ما يظهر منهم؛ فمن أظهر الإسلام قبلنا منه ظاهره ووكلنا سريرته إلى الله، فيعامل معاملة المسلمين ما لم يتبين لنا بحجة قاطعة ارتداده عن دين الإسلام.
· وهذا هو قول مجاهد والشافعي والبخاري ومحمد بن نصر المروزي وأبي المظفر السمعاني والبغوي والشنقيطي واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14] قالوا: فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم بنص القرآن، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فليس بمسلم على الحقيقة، وإنما إسلامه بلسانه دون قلبه.
· وأصحاب القول الأول يقولون إن الإيمان المنفي عنهم هو ما تقتضيه مرتبة الإيمان، فهم لم يعرفوا حقيقة الإيمان وإنما أسلموا على جهل فيثبت لهم حكم الإسلام؛ ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[الحجرات: 14] أي لم تباشر حقيقة الإيمان قلوبكم.
· وابن القيم رحمه الله قال بالقول الأول في بدائع الفوائد، وقال بالقول الثاني في إعلام الموقعين.
· والتحقيق أن دلالة الآية تَسَعُ القولين:
- فإذا أريد بنفي الإيمان في قوله تعالى: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ [الحجرات: 14] نفي أصل الإيمان الذي يَثبت به حكم الإسلام؛ فهؤلاء كفار في الباطن، مسلمون في الظاهر، فيكون حكمهم حكم المنافقين، وقد يتوب الله على من يشاء منهم ويهديه للإيمان.
- وإذا أريد بنفي الإيمان نفي القدر الواجب من الإيمان الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به مؤمنين؛ فهذا لا يستلزم نفي أصل الإيمان والخروج من دين الإسلام، فيثبت لهم حكم الإسلام، وينفى عنهم وصف الإيمان الذي يطلق على من أتى بالقدر الواجب منه.
- وهذا كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن!))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: (( الذي لا يأمن جاره بوائقه))؛ فهذا نفى عنه حقيقة الإيمان والقدر الواجب منه الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به، ولا يقتضي أن من فعل ذلك فهو خارج عن دين الإسلام.
- والذي يوضح هذا الأمر أن قول ﴿أَسْلَمْنَا﴾ قد يقوله الصادق والكاذب؛ فإذا قاله الكاذب فهو منافق مدَّعٍ للإسلام مخادع للذين آمنوا، يُظهر الإسلام ويبطن الكفر، وإذا قاله الصادق فهو مسلم ظاهراً وباطناً، ومعه أصل الإيمان.
- ولهذا قال الله تعالى: ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17]؛ فعلق وصف الإيمان بالصدق؛ فمن صدق منهم فهو من أهل الصنف الأول، ومن لم يصدق منهم فهو من أهل الصنف الثاني.
- وهذا يدلّ على جوازِ أن يكون فيمن نزلت فيهم هذه الآيات من هو من أصحاب الصنف والأول، ومنهم من هو من أصحاب الصنف الثاني، وشملت هذه الآيات الصنفين كليهما.
- وهذا مثال بديع لحسن بيان القرآن الكريم، ودلالته على المعاني العظيمة بألفاظ وجيزة.
- والمقصود أن الآية على القول الأول في تفسيرها فيها دلالة على التفريق بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان.
· قال محمد بن نصر المروزي: (نقول إن الرجل قد يسمَّى مسلماً على وجهين:
- أحدهما: أن يخضع لله بالإيمان والطاعة تدينا بذلك يريد الله بإخلاص نية.
- والجهة الأخرى: أن يخضع ويستسلم للرسول وللمؤمنين خوفا من القتل والسبي؛ فيقال قد أسلم أي خضع خوفا وتقية، ولم يسلم لله، وليس هذا بالإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه الذي هو الإيمان الذي دعا الله العباد إليه)ا.هـ.
· وكذلك قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[الذاريات: 35، 36].
- امرأة لوط كانت مسلمة في الظاهر، لكنها لم تكن مؤمنة.
- وهذه الآية فيها لطيفة وهي أن المؤمنين موعودون بالنجاة، والمسلم غير المؤمن ليس له عهد بالسلامة من العذاب؛ فقد يعذب بمعاصيه في الدنيا وقد يعذب في قبره وقد يعذب في النار، لكنه لا يخلد فيها.
- وهذا نظيره ما ورد في قصة أصحاب السبت فإن الله تعالى أنجى المؤمنين الذين ينهون عن السوء وسكت عن الساكتين عن إنكار المنكر، وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس.
- أصحاب الكبائر من المسلمين ليس لهم عهد أمان من العذاب كما جعل الله ذلك لأهل الإيمان؛ فقد يُعذَّبون، وقد يعفو الله عنهم بفضله وكرمه، وهذا يبين لك الفرق العظيم بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان.
- فالمؤمن له عهد أمان بأن لا يعذبه الله ولا يخذله، وأنه لا يخاف ولا يحزن، ولا يضل ولا يشقى، وقد تكفَّل الله له بالهداية والنجاة والنصر والرفعة، وهو في أمان من نقمة الله تعالى وسخطه، وفي أمان من عذاب الآخرة كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[الأنعام: 82].
· ومما ينبغي أن يعلم أن لفظ الإسلام والإيمان إذا أفردا؛ فقد يراد بالإسلام ما يتضمن معنى الإسلام والإيمان كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [النساء: 125]؛ فإسلام الوجه هنا يشمل معنى الإيمان بلا شك.
· وإذا أطلق لفظ الإيمان شمل معنى الإسلام كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنه يخاطب به جميع المسلمين بلا خلاف بين العلماء.
· وإذا جُمع لفظ الإسلام ولفظ الإيمان أريد بالإسلام المعاني الظاهرة من الاستسلام والانقياد والشعائر الظاهرة التي تقتضيها مرتبة الإسلام، وبالإيمان المعاني الباطنة من التصديق والإخلاص والعبادات القلبية التي تقتضيها مرتبة الإيمان.
· وذلك كما في قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾[الزخرف: 68، 69].
· قال ابن جرير: (وقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا﴾ يقول تعالى ذكره: يا عبادي الذين آمنوا وهم الذين صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم، ﴿وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ يقول: وكانوا أهل خضوع لله بقلوبهم، وقبول منهم لما جاءتهم به رسلهم عن ربهم على دين إبراهيم خليل الرحمن صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، حنفاء لا يهود ولا نصارى، ولا أهل أوثان).
· ولذلك يقال في تلخيص الجواب: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
· من عقيدة أهل السنة أنهم لا يكفرون أحداً من المسلمين بكبيرة من الكبائر إلا أن تكون تلك الكبيرة ناقضاً من نواقض الإسلام.
قوله: (وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أعْلاَهَا قَوْلُ لاَ إِلهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ).
· البِضْع ما بين الثلاثة إلى التسعة على أشهر أقوال اللغويين، ويجوز فتح الباء وكسرها، والكسر أشهر قال الله تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: 42].
· والشُّعبة تطلق في اللغة على معانٍ، ومنها الفرع الذي يتجزأ من أصله مع اتصاله به كما في قوله تعالى: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ [المرسلات: 30].
· يقال: عصا لها شعبتان، إذا انقسم طرفها إلى قسمين كالغصنين، والأغصان المتشعبة من أغصان كبار تسمى شُعَباً ومنه قول طرفة بن العبد:
كَأَنَّ السِلاحَ فَوقَ شُعبَةِ بانَةٍ ... تَرى نَفَخاً وَردَ الأَسِرَّةِ أَسحَما
- (بانة) نوع من الشجر، وهو واحد شجر البان.
· والمقصود أن الإيمان له أصول وأجزاء، وهذه الأجزاء هي شُعَبُه وخصاله، وكلما كثرت هذه الشعب كان نصيب المؤمن من الإيمان أكثر.
· في صحيح البخاري: (( الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان))
· وفي صحيح مسلم: (( الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ))
- ولفظ "أعلاها" عند محمد بن نصر المروزي وابن حبان والبغوي في شرح السنة وغيرهم.
· وقد يجتمع في المرء بعض شعب الإيمان وبعض شعب النفاق كما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهَدَ غدر، وإذا خاصم فجر)).
· وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق))
قوله: (وَأَرْكَانُهُ سِتَّةٌ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ).
· أركان الإيمان هي أصوله التي ينبي عليها.
· وهذه الأركان هي أصول الإيمان، وشعب الإيمان ترجع إلى هذه الأصول، لأن الشعبة لا بد لها من أصل، فالشعبة تتشعَّب من أصل.
· وهذا يفيد بالتمثيل أن الإيمان كالشجرة لها أصول وشعب هي أغصانه المتفرعة عنه.
· وقد ورد تشبيه الإيمان بالشجرة كما قال تعالى مشوقاً عباده: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) ﴾[إبراهيم: 24، 25].
- قال ابن جرير: (مثَّل الله مثَلا وشبَّه شبَهًا (كلمة طيبة)، ويعني بالطيبة: الإيمانَ به جل ثناؤه)؛ فالكلمة هنا هي كلمة الإيمان وكلمة التوحيد فهي أصل الإيمان.
· فإذا كان الإيمان راسخاً كان أعلى فروع هذه الشعب هو قول (لا إله إلا الله) لأنه حينئذ يعبّر عما وقر في القلب وصدَّقته الجوارح من معانى الإيمان.
· لكن إذا كانت هذه الكلمة يقولها من ليس بمؤمن لم ينفعه قولها بلسانه وهو غير مؤمن بها لأنها حينئذ لا تكون قائمة على أصل.
· والمقصود أن هذه الأركان الستة هي أصول الإيمان ومنها تفرعت شعبه.
· وشعب الإيمان هي أنواع الإيمان وخصاله، ومنها قلبي وقولي وعملي.
· وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم لكل نوع بمثال: فقول (لا إله إلا الله) قول باللسان، وإماطة الأذى عمل، والحياء عمل قلبي.
قوله: (وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾[البقرة: 177] الآية).
· في هذه الآية ذكر الله تعالى خمسة أصول من أصول الإيمان، وفي حديث جبريل ذكر مع هذه الأصول الخمسة الإيمان بالقدَر.
· والإيمان بالقَدَر من لازمِ الإيمانِ بالله تعالى، لأنَّ القَدَرَ هو من فعل الله جل وعلا، وإذا أُفْرِدَ في بعض المواضع فهو لأهميته.
· وفي بعض الآيات يذكر الله تعالى أصلين من أصول الإيمان وهما الإيمان بالله واليوم الآخر كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ﴾ [النساء: 59]، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) ﴾[النساء: 38، 39]، وهذا كثير في القرآن الكريم.
· وفي بعض المواضع يذكر الإيمان بالله والرسل كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[النساء: 152].
· وفي بعض المواضع يذكر لفظ الإيمان بالله وحده كما في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)﴾[النساء: 175]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾[الطلاق: 11].
· وفي بعض المواضع يذكر لفظ الإيمان مطلقاً دون ذكر متعلَّقِه كما في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: 1].
· فإذا قيل: الإيمان بالله واليوم الآخر؛ فإن الإيمان بالله يشمل الإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله وقدره، فإن هذه الأصول تضاف إلى الله تعالى إضافة لغوية صحيحة، وأما اليوم الآخر فلا يضاف إليه تعالى؛ فلا يقال: ويومه الآخر.
· وإذا ذكر الإيمان بالله وبالرسل دخلت بقية أصول الإيمان فيما أخبرت به الرسل، وكل ما أخبرت به الرسل يجب الإيمان به وتصديقه، وهذا الأصول العظيمة من الإيمان بالملائكة والكتب واليوم الآخر والقدر من أعظم ما أخبرت به الرسل.
· وإذا أفرد الإيمان بالله وحده دخل في ذلك جميع ما أمر الله تعالى بالإيمان به.
· وإذا أطلق لفظ الإيمان دون متعلقه فالمراد به الإيمان الذي أمر الله تعالى به وأحبه ومن أعظم ذلك الإيمان بهذه الأصول العظيمة.
· وهذا يبيّن لك أن هذه الأصول العظيمة يدل بعضها على بعض، ويستلزم بعضها بعضاً، وأن من رام أن يفرّق بينها فيؤمن ببعض ويكفر ببعض فهو كافر بها كلها.
· ومن كفر بأصل من هذه الأصول فهو كافر خارج عن دين الإسلام.
· قد يقع عند العبد خطأ ومخالفة في بعض لوازم الإيمان بهذه الأصول مع إيمانه بها على وجه الإجمال؛ فهذا يكون حكمه بحسب ما خالف فيه؛ فقد يكون كافراً إذا كان ما خالف فيه ناقضاً من نواقض الإسلام، وقد يكون مبتدعاً، وقد يكون عاصياً.
قوله: (وَدَلِيلُ الْقَدَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾).
· هذه الآية فيها ذكر القَدَر، وأن الله تعالى قد خلق كلَّ شيء بقدر، فمن آمن بذلك فقد آمن بالقدر.
· والإيمان بالقدر من أصول الإيمان العظيمة المذكورة في حديث جبريل نصاً.
أركان الإيمان
الإيمان بالله تعالى:
· الإيمان بالله تعالى يستلزم الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته، والقيام بواجب هذا الإيمان اعتقاداً وقولاً وعملاً.
· فأما الإيمان بوجود الله تعالى فلم يخالف فيه إلا قلَّة من الناس، وهم الملاحدة وهم طوائف؛ فمنهم الدهرية الطبائعية الذين ينسبون كل شيء للطبيعة، ومنهم الشيوعية والداروينية، ومنهم البهائية والبابية وهاتان الفرقتان من فرق الشيعة.
· ومن الملاحدة من يقرّ بوجود الله تعالى لكنَّه يفسّر وجوده تفسيراً خاطئاً كالدهرية الإلهية وهم طائفة من الفلاسفة يزعمون أن وجودَ الرب تعالى وجودٌ مطلق لا صفة له.
· وهؤلاء الذين ينكرون وجود الله تعالى من أعظم الناس اضطراباً وتناقضاً، فإن الإيمان بوجود الله تعالى أمر تقتضيه الفطرة فمن أنكره وقع في التناقض والاضطراب ولا بد.
· وقد حكى الله تعالى عن فرعون وهو مِن أشهر من أظهر القول بإنكار وجود الله تعالى أنه وقع في هذا الاضطراب والتناقض؛ فأنكر وجود الله تكبّراً وإباء مع يقينه بوجوده في قرارة نفسه، ولمّا مسّه عذاب الرجز سأل مؤسى أن يدعو ربّه ليكشف عنه العذاب.
- قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) ﴾ [القصص: 38، 39].
- وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)﴾ [الأعراف: 134، 135].
· والملاحدة أضعف الناس حجة إذا ناظرهم من يحسن المناظرة كما ذكر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ونبأ محاجة الملك له قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[البقرة: 258].
· وأما الإيمان بربوبية الله تعالى فهو الإقرار بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المالك المدبر المحيي المميت.
· وهذا الإقرار لا يدخل العبد في الإسلام بل يلزمه للدخول في الإسلام توحيد الألوهية بأن يعبد الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بوجود الله، ويقرون بربوبيته لكنهم لم يوحدوا الله تعالى في العبادة فلم يدخلوا في دين الإسلام.
· وأما الإيمان بألوهية الله تعالى؛ فهو الإقرار بأنه لا يستحق العبادة إلا الله جل وعلا؛ إقراراً جازماً يتبعه العمل؛ ولا يكون مؤمناً بألوهية الله تعالى إلا من كفر بما يُعبد من دون الله، وَعَبَدَ الله وحده لا شريك الله.
· وهذه المرتبة العظيمة هي التي وقعت فيها الخصومة بين الرسل وأقوامهم، وهي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الناس حتى يؤمنوا بها وهي مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
· وأما الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا فيكون بالإقرار الجازم بما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل إقراراً جازماً يتبعه العمل بمقتضاه.
- فنؤمن بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا وبما دلت عليه من المعاني الجليلة وأنه لا شبيه له فيها، وأن الله تعالى له الكمال المطلق فلا يلحقه نقص في أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله، قد تنزَّه عن الشرور والنقائص والعيوب وسائر ما لا يليق بكماله المقدس.
- ونتعبَّد لله تعالى بمقتضى أسمائه وصفاته:
فإيماننا بأسماء السميع البصير واللطيف الخبير والعليم المحيط ونحوها من الأسماء الحسنى التي تدل على العلم والإحاطة تقتضي منا مراقبة الله تعالى في شؤننا كلها، فنعبده جل وعلا وكأننا نراه، فنأتي الطاعات ونجتنب المعاصي ونحن نعتقد أن الله تعالى يرانا ويعلم سرنا وعلانيتنا، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا.
وإيماننا بصفات الرحمة والكرم والإحسان يقتضي تعظيم محبة الله جل وعلا وتعظيم الرجاء في فضله ورحمته وبركاته.
وإيماننا بصفات القوة والقدرة والقهر يقتضي تعظيم الخوف من الله جل وعلا فلا نقدم على معصيته ولا نتخلف عن طاعته، ولا نيأس من نصره.
وكل اسم من الأسماء الحسنى وصفة من الصفات العليا لها آثارها العظيمة الجليلة، ولها مقتضياتها من أنواع العبودية لله جل وعلا.
· وهذه المرتبة من الإيمان خالف فيها طوائف من الفرق الضالة وهي على صنفين: معطلة ومشبِّهة.
- فأما المعطلة: فهو وصف جامع لفِرَقٍ نَفَتْ أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العليا أو نفت بعضها وهذا هو معنى التعطيل، ومن أشهر هذه الفرق: الجهمية والمعتزلة والكلابية والماتريدية والأشاعرة، وهي على درجات في التعطيل.
- وأما المشبّهة: فهم الذين شبهوا الله تعالى بخلقه، والتشبيه وقع فيه بعض الأشخاص الذين اشتهر عنهم القول به ومنهم من نص السلف على كفره كداود الجواربي والمغيرة بن سعيد العجلي وهشام بن الحكم الرافضي وهشام الجواليقي.
- وكان في بعض قدماء الروافض تشبيه ومن فرقهم المشبهة: السبئية والمغيرية والسحابية الذين يزعمون أن علياً في السحاب وأن الرعد صوته والبرق سوطه.
- وممن وقع في التشبيه من الفرق المشتهرة الكرامية وغلاة الصوفية من الحلولية والاتحادية وهؤلاء من أعظم الفرق تشبيهاً وكفراً والعياذ بالله، ولهم أقوال شنيعة في الكفر والتشبيه.
http://www.afaqattaiseer.net/vb/images/exa_logo/like.png (http://www.afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=15180#)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ
وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أعْلاَهَا قَوْلُ لاَ إِلهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ.
وَأَرْكَانُهُ سِتَّةٌ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ الآية [البقرة:177].
وَدَلِيلُ الْقَدَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر:49]).
عناصر الدرس:
· بيان معنى الإيمان
· درجات الإيمان
· معنى شعب الإيمان
· أركان الإيمان
· أدلة أركان الإيمان
· الركن الأول: الإيمان بالله تعالى
... - مراتب الإيمان بالله تعالى
قوله: (الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ).
· المرتبة الثانية من مراتب دين الإسلام هي مرتبة الإيمان.
· وهذه المرتبة أخص من سابقتها، فإيمان أصحابها أعظم من إيمان أصحاب المرتبة السابقة، فهم مسلمون مؤمنون، ولذلك يقال: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن.
· الإيمان عند أهل السنة والجماعة: اعتقاد بالجَنان وقول باللسان وعمل بالأركان.
- الجَنان: هو القلب، والأركان هي: الجوارح كالحواس والأطراف وغيرها.
· ومن أهل العلم من يختصر العبارة فيقول:الإيمان قول وعمل.
- فيقصد بالقول: قول القلب أي تصديقه، وقول اللسان.
- ويقصد بالعمل: عمل القلب وهو العبادات القلبية من المحبة والخوف والرجاء والخشية والرغبة والرهبة والإنابة وغيرها، وعمل الجوارح يشمل البصر والسمع والمشي والتناول والنكاح وغيرها.
· المؤمنون يتفاضلون في الأقوال والأعمال، ولذلك يتفاضلون في الإيمان.
· الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة، وينقص بفعل المعصية وبترك الطاعات، كما قال الله تعالى: ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر: 31]، وقال: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال: 2]، وقال: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4].
· يزيد الإيمان بالطاعة وهي امتثال الأمر واجتناب النهي؛ فكلما امتثل أمر وجوب أو استحباب زاد إيمانه، وكلما اجتنب محرماً أو مكروها احتساباً زاد إيمانه.
· والمسلم هو الذي أتى بأصل الإيمان، وقد يأتي بالقدر الواجب منه، وقد يأتي بالكمال المستحب، وقد يقع في الذنوب والمعاصي والكبائر فينقص إيمانه بسبب ذلك.
· الإيمان على ثلاث درجات:
- الدرجة الأولى: درجة أصل الإيمان، ويسمى مطلق الإيمان، وهو ما يصح به إسلام العبد؛ فهذا يسمى به مسلماً، وإن كان معه أصل الإيمان، لكن لا يقال هو مؤمن لأن هذا فيه تزكية له لم يبلغها؛ فلا ينفى عنه أصل الإيمان ولا يثبت له وصف حقيقة الإيمان.
قال ابن القيم: (كما أن الرجل يكون معه جزء من العلم والفقه ولا يسمى به عالما فقيها).
وبيان ذلك أنه لا يصح إسلام العبد حتى يشهد الشهادتين، وهذا يستلزم الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم والإتيان بأركان الإسلام الظاهرة، ولا يُتصور أن يشهد أن لا إله إلا الله وهو لم يؤمن بالله.
ولا يكون مسلماً حتى يجتنب نواقض الإسلام، ومن ذلك أنه يصدّق بخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا قَدْر من الإيمان لا يصح الإسلام إلا به.
ومن هذه الطبقة أصحاب الكبائر من المسلمين، فإن معهم أصل الإيمان وهم قد حققوا الدرجة الأولى من درجات العبودية لله تعالى فاجتنبوا الشرك الأكبر واجتنبوا نواقض الإسلام.
فأصحاب هذه الدرجة لا نكفرهم كما تفعل الخوارج، ولا نقول إنهم بمنزلة بين المنزلتين أي بين الإسلام والكفر كما تقول المعتزلة، بل هم مسلمون ومعهم أصل الإيمان، لكنهم لم يحققوا الإيمان الواجب، ففيهم إيمان وفيهم فسق بسبب عصيانهم.
يُسمى صاحب هذه المرتبة عند بعض أهل العلم بالفاسق الملّي، أي أنه فاسق، وهو على ملة الإسلام.
وهؤلاء نحبهم لإسلامهم ونبغضهم لعصيانهم؛ فيجتمع في حقهم الحب والبغض، كما جمعوا بين الإيمان والعصيان.
والتعامل معهم يكون على ما تقتضيه أحكام الشريعة؛ فيهجر بعضهم في مواضع الهجر، ويتألَّف بعضهم، ويناصحون ويدعى لهم بالهداية، ونحب لهم الخير ونكره لهم البقاء على العصيان.
- الدرجة الثانية: درجة كمال الإيمان الواجب؛ فمن حقق الإيمان الواجب بأداء الواجبات واجتناب المحرمات إيماناً واحتساباً فهو مؤمن.
- الدرجة الثالثة: درجة كمال الإيمان المستحب، وتشمل الإيمان الواجب والمستحب، وأصحاب هذه الدرجة هم المحسنون؛ فإنهم تقربوا إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل واجتنبوا المحرمات والمكروهات، وحققوا الإيمان بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم؛ فكان سعيهم لله، وهذا السعي يشمل الحب والبغض والعطاء والمنع، وهذه جوامع خصال الإيمان؛ كما في سنن أبي داوود وغيره من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان))
- قال ابن القيم رحمه في إغاثة اللهفان شارحاً هذا الحديث: (فإن الإيمان علم وعمل والعمل ثمرة العلم وهو نوعان: عمل القلب حبا وبغضا ويترتب عليهما عمل الجوارح فعلا وتركا وهما العطاء والمنع؛ فإذا كانت هذه الأربعة لله تعالى كان صاحبُها مستكملَ الإيمان وما نقص منها فكان لغير الله نقص من إيمانه بحسبه).
- والحب لله أعم من الحب في الله، فهو يشمل محبة كل ما يُحَبّ لله جل وعلا من الأشخاص والأعمال والأقوال والأحوال والمقاصد والأخلاق والأمكنة والأزمنة وغيرها.
- وكذلك العطاء لله أعمّ من أن يكون المراد به عطاء المال، بل هو شامل لكل ما يُعطى من مال وجاه وعلم وجهد ووقت، وكذلك المنع.
- فمن كان حبه لله، وبغضه لله، وعطاؤه لله، ومنعه لله، فهو مؤمن مستكمل الإيمان؛ نسأل الله تعالى من فضله.
· والمقصود: أن الإيمان على ثلاث درجات: درجة أصل الإيمان، ودرجة الإيمان الواجب، ودرجة كمال الإيمان؛ فالدرجة الأولى هي: مرتبة الإسلام، والدرجة الثانية: مرتبة الإيمان، والدرجة الثالثة: مرتبة الإحسان.
· فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً.
· وكان بعض السلف يوضح هذا الأمر برسم بياني كما روي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه رسم دائرة واسعة وقال: هذا الإسلام، ثم رسم دائرة في وسطها أصغر منها وقال: وهذا الإيمان، ثم قال: (فإذا زنا وسرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله عز وجل). رواه عبد الله بن الإمام أحمد وابن منده والآجري واللالكائي.
- قال ابن منده: (وهذا مذهب جماعة من أئمة الآثار واحتجوا بخبر عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة رضي الله عنهم).
· وقال ابن تيمية في رسالته قاعدة في المحبة: (قول النبي صلى الله عليه وسلم:(( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) على بابه، لو كان بغضه لما أبغضه الله من هذه الأفعال تامَّا لما فعلها؛ فإذْ فعلها فإمَّا أن يكون تصديقه بأن اللهَ يبغضها فيه ضعف، أو نَفْسُ بغضِهِ لما يبغضه الله فيه ضعف، وكلاهما يمنع تمام الإيمان الواجب)
· وهذا التفريق بين الإسلام والإيمان استُدِل له بآيات من القرآن الكريم:
· منها قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14]، وهذه الآية للسلف في تفسيرها قولان مشهوران:
· القول الأول: أن الإسلام المثبَت لهم هو مرتبة الإسلام، وأنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان، وهو قول الزهري وإبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل واختاره ابن جرير وابن تيمية وابن كثير وابن رجب.
· القول الثاني: أن الإسلام المثبَت لهم هو الإسلام الظاهر الذي لا يقتضي أن يكون صاحبه مسلماً حقاً في الباطن، وذلك كما يحكم لأهل النفاق بالإسلام الظاهر، وإن كانوا كفاراً في الباطن؛ لأن التعامل مع الناس هو على ما يظهر منهم؛ فمن أظهر الإسلام قبلنا منه ظاهره ووكلنا سريرته إلى الله، فيعامل معاملة المسلمين ما لم يتبين لنا بحجة قاطعة ارتداده عن دين الإسلام.
· وهذا هو قول مجاهد والشافعي والبخاري ومحمد بن نصر المروزي وأبي المظفر السمعاني والبغوي والشنقيطي واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14] قالوا: فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم بنص القرآن، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فليس بمسلم على الحقيقة، وإنما إسلامه بلسانه دون قلبه.
· وأصحاب القول الأول يقولون إن الإيمان المنفي عنهم هو ما تقتضيه مرتبة الإيمان، فهم لم يعرفوا حقيقة الإيمان وإنما أسلموا على جهل فيثبت لهم حكم الإسلام؛ ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[الحجرات: 14] أي لم تباشر حقيقة الإيمان قلوبكم.
· وابن القيم رحمه الله قال بالقول الأول في بدائع الفوائد، وقال بالقول الثاني في إعلام الموقعين.
· والتحقيق أن دلالة الآية تَسَعُ القولين:
- فإذا أريد بنفي الإيمان في قوله تعالى: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ [الحجرات: 14] نفي أصل الإيمان الذي يَثبت به حكم الإسلام؛ فهؤلاء كفار في الباطن، مسلمون في الظاهر، فيكون حكمهم حكم المنافقين، وقد يتوب الله على من يشاء منهم ويهديه للإيمان.
- وإذا أريد بنفي الإيمان نفي القدر الواجب من الإيمان الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به مؤمنين؛ فهذا لا يستلزم نفي أصل الإيمان والخروج من دين الإسلام، فيثبت لهم حكم الإسلام، وينفى عنهم وصف الإيمان الذي يطلق على من أتى بالقدر الواجب منه.
- وهذا كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن!))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: (( الذي لا يأمن جاره بوائقه))؛ فهذا نفى عنه حقيقة الإيمان والقدر الواجب منه الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به، ولا يقتضي أن من فعل ذلك فهو خارج عن دين الإسلام.
- والذي يوضح هذا الأمر أن قول ﴿أَسْلَمْنَا﴾ قد يقوله الصادق والكاذب؛ فإذا قاله الكاذب فهو منافق مدَّعٍ للإسلام مخادع للذين آمنوا، يُظهر الإسلام ويبطن الكفر، وإذا قاله الصادق فهو مسلم ظاهراً وباطناً، ومعه أصل الإيمان.
- ولهذا قال الله تعالى: ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17]؛ فعلق وصف الإيمان بالصدق؛ فمن صدق منهم فهو من أهل الصنف الأول، ومن لم يصدق منهم فهو من أهل الصنف الثاني.
- وهذا يدلّ على جوازِ أن يكون فيمن نزلت فيهم هذه الآيات من هو من أصحاب الصنف والأول، ومنهم من هو من أصحاب الصنف الثاني، وشملت هذه الآيات الصنفين كليهما.
- وهذا مثال بديع لحسن بيان القرآن الكريم، ودلالته على المعاني العظيمة بألفاظ وجيزة.
- والمقصود أن الآية على القول الأول في تفسيرها فيها دلالة على التفريق بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان.
· قال محمد بن نصر المروزي: (نقول إن الرجل قد يسمَّى مسلماً على وجهين:
- أحدهما: أن يخضع لله بالإيمان والطاعة تدينا بذلك يريد الله بإخلاص نية.
- والجهة الأخرى: أن يخضع ويستسلم للرسول وللمؤمنين خوفا من القتل والسبي؛ فيقال قد أسلم أي خضع خوفا وتقية، ولم يسلم لله، وليس هذا بالإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه الذي هو الإيمان الذي دعا الله العباد إليه)ا.هـ.
· وكذلك قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[الذاريات: 35، 36].
- امرأة لوط كانت مسلمة في الظاهر، لكنها لم تكن مؤمنة.
- وهذه الآية فيها لطيفة وهي أن المؤمنين موعودون بالنجاة، والمسلم غير المؤمن ليس له عهد بالسلامة من العذاب؛ فقد يعذب بمعاصيه في الدنيا وقد يعذب في قبره وقد يعذب في النار، لكنه لا يخلد فيها.
- وهذا نظيره ما ورد في قصة أصحاب السبت فإن الله تعالى أنجى المؤمنين الذين ينهون عن السوء وسكت عن الساكتين عن إنكار المنكر، وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس.
- أصحاب الكبائر من المسلمين ليس لهم عهد أمان من العذاب كما جعل الله ذلك لأهل الإيمان؛ فقد يُعذَّبون، وقد يعفو الله عنهم بفضله وكرمه، وهذا يبين لك الفرق العظيم بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان.
- فالمؤمن له عهد أمان بأن لا يعذبه الله ولا يخذله، وأنه لا يخاف ولا يحزن، ولا يضل ولا يشقى، وقد تكفَّل الله له بالهداية والنجاة والنصر والرفعة، وهو في أمان من نقمة الله تعالى وسخطه، وفي أمان من عذاب الآخرة كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[الأنعام: 82].
· ومما ينبغي أن يعلم أن لفظ الإسلام والإيمان إذا أفردا؛ فقد يراد بالإسلام ما يتضمن معنى الإسلام والإيمان كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [النساء: 125]؛ فإسلام الوجه هنا يشمل معنى الإيمان بلا شك.
· وإذا أطلق لفظ الإيمان شمل معنى الإسلام كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنه يخاطب به جميع المسلمين بلا خلاف بين العلماء.
· وإذا جُمع لفظ الإسلام ولفظ الإيمان أريد بالإسلام المعاني الظاهرة من الاستسلام والانقياد والشعائر الظاهرة التي تقتضيها مرتبة الإسلام، وبالإيمان المعاني الباطنة من التصديق والإخلاص والعبادات القلبية التي تقتضيها مرتبة الإيمان.
· وذلك كما في قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾[الزخرف: 68، 69].
· قال ابن جرير: (وقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا﴾ يقول تعالى ذكره: يا عبادي الذين آمنوا وهم الذين صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم، ﴿وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ يقول: وكانوا أهل خضوع لله بقلوبهم، وقبول منهم لما جاءتهم به رسلهم عن ربهم على دين إبراهيم خليل الرحمن صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، حنفاء لا يهود ولا نصارى، ولا أهل أوثان).
· ولذلك يقال في تلخيص الجواب: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
· من عقيدة أهل السنة أنهم لا يكفرون أحداً من المسلمين بكبيرة من الكبائر إلا أن تكون تلك الكبيرة ناقضاً من نواقض الإسلام.
قوله: (وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أعْلاَهَا قَوْلُ لاَ إِلهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ).
· البِضْع ما بين الثلاثة إلى التسعة على أشهر أقوال اللغويين، ويجوز فتح الباء وكسرها، والكسر أشهر قال الله تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: 42].
· والشُّعبة تطلق في اللغة على معانٍ، ومنها الفرع الذي يتجزأ من أصله مع اتصاله به كما في قوله تعالى: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ [المرسلات: 30].
· يقال: عصا لها شعبتان، إذا انقسم طرفها إلى قسمين كالغصنين، والأغصان المتشعبة من أغصان كبار تسمى شُعَباً ومنه قول طرفة بن العبد:
كَأَنَّ السِلاحَ فَوقَ شُعبَةِ بانَةٍ ... تَرى نَفَخاً وَردَ الأَسِرَّةِ أَسحَما
- (بانة) نوع من الشجر، وهو واحد شجر البان.
· والمقصود أن الإيمان له أصول وأجزاء، وهذه الأجزاء هي شُعَبُه وخصاله، وكلما كثرت هذه الشعب كان نصيب المؤمن من الإيمان أكثر.
· في صحيح البخاري: (( الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان))
· وفي صحيح مسلم: (( الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ))
- ولفظ "أعلاها" عند محمد بن نصر المروزي وابن حبان والبغوي في شرح السنة وغيرهم.
· وقد يجتمع في المرء بعض شعب الإيمان وبعض شعب النفاق كما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهَدَ غدر، وإذا خاصم فجر)).
· وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق))
قوله: (وَأَرْكَانُهُ سِتَّةٌ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ).
· أركان الإيمان هي أصوله التي ينبي عليها.
· وهذه الأركان هي أصول الإيمان، وشعب الإيمان ترجع إلى هذه الأصول، لأن الشعبة لا بد لها من أصل، فالشعبة تتشعَّب من أصل.
· وهذا يفيد بالتمثيل أن الإيمان كالشجرة لها أصول وشعب هي أغصانه المتفرعة عنه.
· وقد ورد تشبيه الإيمان بالشجرة كما قال تعالى مشوقاً عباده: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) ﴾[إبراهيم: 24، 25].
- قال ابن جرير: (مثَّل الله مثَلا وشبَّه شبَهًا (كلمة طيبة)، ويعني بالطيبة: الإيمانَ به جل ثناؤه)؛ فالكلمة هنا هي كلمة الإيمان وكلمة التوحيد فهي أصل الإيمان.
· فإذا كان الإيمان راسخاً كان أعلى فروع هذه الشعب هو قول (لا إله إلا الله) لأنه حينئذ يعبّر عما وقر في القلب وصدَّقته الجوارح من معانى الإيمان.
· لكن إذا كانت هذه الكلمة يقولها من ليس بمؤمن لم ينفعه قولها بلسانه وهو غير مؤمن بها لأنها حينئذ لا تكون قائمة على أصل.
· والمقصود أن هذه الأركان الستة هي أصول الإيمان ومنها تفرعت شعبه.
· وشعب الإيمان هي أنواع الإيمان وخصاله، ومنها قلبي وقولي وعملي.
· وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم لكل نوع بمثال: فقول (لا إله إلا الله) قول باللسان، وإماطة الأذى عمل، والحياء عمل قلبي.
قوله: (وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾[البقرة: 177] الآية).
· في هذه الآية ذكر الله تعالى خمسة أصول من أصول الإيمان، وفي حديث جبريل ذكر مع هذه الأصول الخمسة الإيمان بالقدَر.
· والإيمان بالقَدَر من لازمِ الإيمانِ بالله تعالى، لأنَّ القَدَرَ هو من فعل الله جل وعلا، وإذا أُفْرِدَ في بعض المواضع فهو لأهميته.
· وفي بعض الآيات يذكر الله تعالى أصلين من أصول الإيمان وهما الإيمان بالله واليوم الآخر كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ﴾ [النساء: 59]، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) ﴾[النساء: 38، 39]، وهذا كثير في القرآن الكريم.
· وفي بعض المواضع يذكر الإيمان بالله والرسل كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[النساء: 152].
· وفي بعض المواضع يذكر لفظ الإيمان بالله وحده كما في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)﴾[النساء: 175]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾[الطلاق: 11].
· وفي بعض المواضع يذكر لفظ الإيمان مطلقاً دون ذكر متعلَّقِه كما في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: 1].
· فإذا قيل: الإيمان بالله واليوم الآخر؛ فإن الإيمان بالله يشمل الإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله وقدره، فإن هذه الأصول تضاف إلى الله تعالى إضافة لغوية صحيحة، وأما اليوم الآخر فلا يضاف إليه تعالى؛ فلا يقال: ويومه الآخر.
· وإذا ذكر الإيمان بالله وبالرسل دخلت بقية أصول الإيمان فيما أخبرت به الرسل، وكل ما أخبرت به الرسل يجب الإيمان به وتصديقه، وهذا الأصول العظيمة من الإيمان بالملائكة والكتب واليوم الآخر والقدر من أعظم ما أخبرت به الرسل.
· وإذا أفرد الإيمان بالله وحده دخل في ذلك جميع ما أمر الله تعالى بالإيمان به.
· وإذا أطلق لفظ الإيمان دون متعلقه فالمراد به الإيمان الذي أمر الله تعالى به وأحبه ومن أعظم ذلك الإيمان بهذه الأصول العظيمة.
· وهذا يبيّن لك أن هذه الأصول العظيمة يدل بعضها على بعض، ويستلزم بعضها بعضاً، وأن من رام أن يفرّق بينها فيؤمن ببعض ويكفر ببعض فهو كافر بها كلها.
· ومن كفر بأصل من هذه الأصول فهو كافر خارج عن دين الإسلام.
· قد يقع عند العبد خطأ ومخالفة في بعض لوازم الإيمان بهذه الأصول مع إيمانه بها على وجه الإجمال؛ فهذا يكون حكمه بحسب ما خالف فيه؛ فقد يكون كافراً إذا كان ما خالف فيه ناقضاً من نواقض الإسلام، وقد يكون مبتدعاً، وقد يكون عاصياً.
قوله: (وَدَلِيلُ الْقَدَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾).
· هذه الآية فيها ذكر القَدَر، وأن الله تعالى قد خلق كلَّ شيء بقدر، فمن آمن بذلك فقد آمن بالقدر.
· والإيمان بالقدر من أصول الإيمان العظيمة المذكورة في حديث جبريل نصاً.
أركان الإيمان
الإيمان بالله تعالى:
· الإيمان بالله تعالى يستلزم الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته، والقيام بواجب هذا الإيمان اعتقاداً وقولاً وعملاً.
· فأما الإيمان بوجود الله تعالى فلم يخالف فيه إلا قلَّة من الناس، وهم الملاحدة وهم طوائف؛ فمنهم الدهرية الطبائعية الذين ينسبون كل شيء للطبيعة، ومنهم الشيوعية والداروينية، ومنهم البهائية والبابية وهاتان الفرقتان من فرق الشيعة.
· ومن الملاحدة من يقرّ بوجود الله تعالى لكنَّه يفسّر وجوده تفسيراً خاطئاً كالدهرية الإلهية وهم طائفة من الفلاسفة يزعمون أن وجودَ الرب تعالى وجودٌ مطلق لا صفة له.
· وهؤلاء الذين ينكرون وجود الله تعالى من أعظم الناس اضطراباً وتناقضاً، فإن الإيمان بوجود الله تعالى أمر تقتضيه الفطرة فمن أنكره وقع في التناقض والاضطراب ولا بد.
· وقد حكى الله تعالى عن فرعون وهو مِن أشهر من أظهر القول بإنكار وجود الله تعالى أنه وقع في هذا الاضطراب والتناقض؛ فأنكر وجود الله تكبّراً وإباء مع يقينه بوجوده في قرارة نفسه، ولمّا مسّه عذاب الرجز سأل مؤسى أن يدعو ربّه ليكشف عنه العذاب.
- قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) ﴾ [القصص: 38، 39].
- وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)﴾ [الأعراف: 134، 135].
· والملاحدة أضعف الناس حجة إذا ناظرهم من يحسن المناظرة كما ذكر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ونبأ محاجة الملك له قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[البقرة: 258].
· وأما الإيمان بربوبية الله تعالى فهو الإقرار بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المالك المدبر المحيي المميت.
· وهذا الإقرار لا يدخل العبد في الإسلام بل يلزمه للدخول في الإسلام توحيد الألوهية بأن يعبد الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بوجود الله، ويقرون بربوبيته لكنهم لم يوحدوا الله تعالى في العبادة فلم يدخلوا في دين الإسلام.
· وأما الإيمان بألوهية الله تعالى؛ فهو الإقرار بأنه لا يستحق العبادة إلا الله جل وعلا؛ إقراراً جازماً يتبعه العمل؛ ولا يكون مؤمناً بألوهية الله تعالى إلا من كفر بما يُعبد من دون الله، وَعَبَدَ الله وحده لا شريك الله.
· وهذه المرتبة العظيمة هي التي وقعت فيها الخصومة بين الرسل وأقوامهم، وهي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الناس حتى يؤمنوا بها وهي مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
· وأما الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا فيكون بالإقرار الجازم بما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل إقراراً جازماً يتبعه العمل بمقتضاه.
- فنؤمن بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا وبما دلت عليه من المعاني الجليلة وأنه لا شبيه له فيها، وأن الله تعالى له الكمال المطلق فلا يلحقه نقص في أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله، قد تنزَّه عن الشرور والنقائص والعيوب وسائر ما لا يليق بكماله المقدس.
- ونتعبَّد لله تعالى بمقتضى أسمائه وصفاته:
فإيماننا بأسماء السميع البصير واللطيف الخبير والعليم المحيط ونحوها من الأسماء الحسنى التي تدل على العلم والإحاطة تقتضي منا مراقبة الله تعالى في شؤننا كلها، فنعبده جل وعلا وكأننا نراه، فنأتي الطاعات ونجتنب المعاصي ونحن نعتقد أن الله تعالى يرانا ويعلم سرنا وعلانيتنا، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا.
وإيماننا بصفات الرحمة والكرم والإحسان يقتضي تعظيم محبة الله جل وعلا وتعظيم الرجاء في فضله ورحمته وبركاته.
وإيماننا بصفات القوة والقدرة والقهر يقتضي تعظيم الخوف من الله جل وعلا فلا نقدم على معصيته ولا نتخلف عن طاعته، ولا نيأس من نصره.
وكل اسم من الأسماء الحسنى وصفة من الصفات العليا لها آثارها العظيمة الجليلة، ولها مقتضياتها من أنواع العبودية لله جل وعلا.
· وهذه المرتبة من الإيمان خالف فيها طوائف من الفرق الضالة وهي على صنفين: معطلة ومشبِّهة.
- فأما المعطلة: فهو وصف جامع لفِرَقٍ نَفَتْ أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العليا أو نفت بعضها وهذا هو معنى التعطيل، ومن أشهر هذه الفرق: الجهمية والمعتزلة والكلابية والماتريدية والأشاعرة، وهي على درجات في التعطيل.
- وأما المشبّهة: فهم الذين شبهوا الله تعالى بخلقه، والتشبيه وقع فيه بعض الأشخاص الذين اشتهر عنهم القول به ومنهم من نص السلف على كفره كداود الجواربي والمغيرة بن سعيد العجلي وهشام بن الحكم الرافضي وهشام الجواليقي.
- وكان في بعض قدماء الروافض تشبيه ومن فرقهم المشبهة: السبئية والمغيرية والسحابية الذين يزعمون أن علياً في السحاب وأن الرعد صوته والبرق سوطه.
- وممن وقع في التشبيه من الفرق المشتهرة الكرامية وغلاة الصوفية من الحلولية والاتحادية وهؤلاء من أعظم الفرق تشبيهاً وكفراً والعياذ بالله، ولهم أقوال شنيعة في الكفر والتشبيه.
http://www.afaqattaiseer.net/vb/images/exa_logo/like.png (http://www.afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=15180#)