هيئة الإشراف
_10 _January _2014هـ الموافق 10-01-2014م, 07:01 PM
الدرس السابع عشر: بيان الأصل الثالث من أصول الدين
وهو معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم (2/2)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(نُبِّئَ بِإقْرَا، وَأُرْسِلَ بِالمُدَّثِّرِ، وَبَلَدُهُ مَكَّةُ.
بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [المدثر:1-7].
وَمَعْنَى: ﴿قمْ فَأَنْذِرْ﴾ يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ.
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ الرُّجْزُ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا وَأَهْلِهَا، وَالبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا، وَعَدَاوَتُها وَأَهْلِهَا، وَفِرَاقُهَا وَأَهْلِهَا.
أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ، وَبَعْدَ العَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَصَلَّى في مَكَّةَ ثَلاَثَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا أُمِرَ بِالهِجْرَةِ إِلى المَدِينَةِ).
عناصر الدرس:
· شرح قوله: (نبّئ بإقرأ وأرسل بالمدثر)
· الفرق بين الرسول والنبي
· بلد النبيّ صلى الله عليه وسلم
· بم بُعث النبي صلى الله عليه وسلم
· تفسير صدر سورة المدّثر
· مدّة مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد البعثة
· فرض الصلوات الخمس.
قوله: (نُبِّئَ بِإقْرَا، وَأُرْسِلَ بِالمُدَّثِّرِ).
· النبوَّة منزلة يختص الله بها من يشاء من عباده؛ فيوحي إليهم من أمره ما يشاء.
· وقد ختمت النبوة بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40].
· وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ، وإنه لا نبيَّ بعدي، وسيكون خلفاء فيكثُرون))قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (( أوفوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)).
· وقد أجمع أهل العلم على ختم النبوة والرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا نبي بعده ولا رسول.
· وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم وغيرها من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي)).قال: فشقَّ ذلك على الناس.
قال: قال:(( ولكن المبشرات ))، قالوا: يا رسول الله وما المبشرات؟
قال: (( رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة )). صححه الألباني.
· فكل من ادَّعى النبوة أو الرسالة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهو كذاب.
· قوله: (نُبِّئَ بِإقْرَأ) أي كان مبدأ نبوته عليه السلام لما نزل عليه أول سورة العلق: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾[العلق: 1-5].
- وخبر بدء الوحي رواه البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها.
- وما كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤى الصادقة قبل الوحي هو من إرهاصات النبوة والتهيئة لها.
- وبدأت النبوة ببدء الوحي لما نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء بأول سورة العلق.
· ثم فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، واختلف في مدة فترة الوحي على أقوال:
- فقال الشعبي: كانت مدة فترة الوحي سنتان ونصف، رواه عنه الإمام أحمد في التاريخ كما في فتح الباري لابن حجر، وهو قول بعيد.
- وروى ابن سعد عن ابن عباس أنها كانت أياماً، لكن إسناد هذه الرواية واهٍ جداً.
- والله أعلم بمدة تلك الفترة، لكن صح أن أوَّل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي أول سورة المدثر.
- في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه:(( بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري؛ فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ففَرَقْتُ منه فرجعت فقلت زملوني زملوني؛ فدثروني؛ فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾[المدثر: 1-5] )).وهي الأوثان، قال: ثم تتابع الوحي).
- الذي قال في تفسير الرُّجز: (وهي الأوثان) هو أبو سلمة بن عبد الرحمن كما في رواية عند البخاري: قال: (وهي الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدون).
- وفي رواية في صحيح البخاري أيضاً أن هذه الحادثة كانت قبل أن تفرض الصلاة.
· قوله: (وَأُرْسِلَ بِالمُدَّثِّرِ) يريد أن نزول صدر سورة المدثر كان بداية الرسالة، لما تضمنته من الأمر بالنذارة.
· وهذا الاستنباط قد قال به جماعة من أهل العلم.
· قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية لما ذكر أن أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم سورة اقرأ ثم سورة المدثر قال: (وبهذا حصل الإرسال إلى الناس، وبالأول حصلت النبوة).
· وقال نحو هذا القول الحليمي شيخ البيهقي، وابن تيمية في منهاج السنة النبوية.
الفرق بين الرسول والنبي
· والتفريق بين الرسول والنبي من المسائل التي كثرت فيها أقوال أهل العلم وحصل فيها لبس واشتباه، وفيها مواضع متفق عليها.
· وتلخيص ذلك أن الفرق بين الرسول والنبي يتضح ببيان أمرين:
· الأمر الأول: أن النبوة منزلة، والرسالة منزلة أخص منها، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول، وهذا الأمر عليه قول جماهير العلماء ولا أعرف إماماً معروفاً بالعلم والإمامة في الدين يخالف في هذا القول.
- وقد نقل عن بعض المعتزلة أنه لا فرق بين الرسول والنبي، وقال به بعض من اشتبه عليه الأمر من أهل السنة، فإنهم زعموا أن لا فرق بين الرسول والنبي فكل رسول نبي وكل نبي رسول، وهذا الزعم باطل؛ فإن الفرق بين الرسول والنبي متحقق لدلالة قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ...﴾[الحج: 52] الآية، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ﴾[الأعراف: 157]، وقوله: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ﴾[الأعراف: 158]، وقوله تعالى عن بعض أنبيائه: ﴿وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾[مريم: 51].
- ولما في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل "اللهم إني أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذى أرسلت؛ فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به))، قال البراء بن عازب: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت "اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت" قلت: "ورسولك"، قال: (( لا، ونبيك الذي أرسلت)).
- ولدلالة حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في حديث الشفاعة الطويل وفيه أن الناس يأتون نوحاً فيقولون له: (أنت نوح أول الرسل إلى أهل الأرض). وقد علم بنص الحديث أن آدم عليه السلام نبي مكلم.
· الأمر الثاني: بيان الفرق بين مطلق الإرسال ومنزلة الرسالة؛ فمطلق الإرسال حاصل للأنبياء كلهم كما دل عليه قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: 52].
· فالرسول مرسل، والنبي مرسل، لكن رسالة الرسول أخص من رسالة النبي ومنزلة الرسالة أخص وأعلى من منزلة النبوة ولذلك قدم ذكر الرسول على ذكر النبي في هذه الآية.
· ويدل على ثبوت قدر من الإرسال للأنبياء ما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم)).
· فهذا حق واجب على جميع الأنبياء لم يستثن منه أحد منهم.
· وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن الناس يأتون نوحاً فيقولون له: (يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض) فعلم بذلك أن نوحاً عليه السلام أول الرسل، ونبوة آدم عليه السلام ثابتة، بل هو نبي مكلَّم كما في حديث أبي ذر وأبي أمامة في المسند والمستدرك وغيرهما، وتكليم الله تعالى لآدم ثابت بنص القرآن، ولا بد له ولمن معه من شرع يتعبدون الله تعالى به كما قال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة: 48]،وقد قال الله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38]، واتباع الهدى هو امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، وهو معنى الشريعة.
· وهذا يقتضي أنه أمر بتبليغ ذلك الهدى زوجه وذريته، ومع ذلك فهو نبي مكلم وليس برسول لدلالة حديث أبي هريرة.
· ونظير هذه المسألة مسألة الإيمان والإسلام؛ فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم بمؤمن، ولا بد في الإسلام من قدر من الإيمان يصح به، وإلا فلو انتفى الإيمان جملة عن العبد لانتفى عنه الإسلام جملة.
· والمقصود أن الرسالة منزلة أخص من منزلة النبوة وأعلى منها، كما أن الرسل أيضاً على منازل متفاضلة بعضهم أفضل من بعض كما قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾[البقرة: 253] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾[الإسراء: 55].
· وأفضل الرسل أولوا العزم الخمسة المذكورون في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾[الشورى: 13]، وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾[الأحزاب: 7].
- وأفضل الخمسة الخليلان محمد وإبراهيم عليهما السلام.
- وأفضل الخليلين نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
توضيح
· من أهل العلم من يقول: إن الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ.
· وهذا القول اشتهر عند أهل العلم وفي نشأته والتعبير عنه بهذا التعبير لبس ينبغي توضيحه حتى يتضح الأمر لطالب العلم.
· وأول من نُسب إليه هذا القول بهذا التعبير فيما أعلم أبو سليمان الخطابي (388هـ) رحمه الله، ونص كلامه في كتابه أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري: (والفرق بين النبي والرسول أن النبيَّ هو المنبَّأُ –فعيل بمعنى مُفعَل– والرسول هو المأمور بتبليغ ما نُبِّئَ وأُخبر به؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا).
· وهذا القول اختصره ابن الأثير في جامع الأصول فقال: (قال الخطابي: والفرق بين النبي والرسول: أن الرسول هو المأمور بتبليغ ما أنبئ وأخبر به، والنبي هو المخبَر ولم يؤمر بالتبليغ، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا).
· فأضاف كلمة (ولم يؤمر بالتبليغ) من باب التوضيح لما فهمه، واشتهر هذا التعريف لدى المتأخرين لشهرة الكتاب، ولنسبة هذا القول لأبي سليمان الخطابي رحمه الله وهو من أجلّ شراح الأحاديث.
· وقد قال بنحو هذه الإضافة البيهقي (ت:458هـ) رحمه الله فقال: (والنبوة اسم مشتق من النبأ وهو الخبر إلا أنَّ المراد به في هذا الموضع خبر خاص، وهو الذي يكرم الله عز وجل به أحدا من عباده فيميزه عن غيره بإلقائه إليه، ويوقفه به على شريعته بما فيها من أمر ونهي ووعظ وإرشاد ووعد ووعيد؛ فتكون النبوة على هذا الخبر والمعرفة بالمخبرات الموصوفة فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المخبر بها؛ فإن انضاف إلى هذا التوقيف أمرٌ بتبليغه الناس ودعائهم إليه كان نبيا ورسولا، و إن ألقي إليه ليعمل به في خاصته ولم يؤمر بتبليغه والدعاء إليه كان نبيا ولم يكن رسولا؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا).
· وهذا القول في أصله مأثور عن مجاهد بن جبر فيما رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما ذكره السيوطي في الدر المنثور، وهو موجود في التفسير المطبوع باسم تفسير مجاهد، وهو الذي يرويه عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني وجادة عن إبراهيم بن ديزيل الحافظ أنبأنا آدم بن أبي إياس، قال أنبأنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿رسولاً نبياً﴾ [مريم: 51] قال: (النبي هو الذي يُكَلَّم ويُنْزَلُ عليه ولا يُرْسَلُ، والرسولُ هو الذي يُرسَل).
· وقال الفراء: (فالرسول النبيّ المرسل، والنبي: المحدَّث الذي لم يُرسَل).
· وقال ابن جرير في آية الحج: (فتأويل الكلام: ولم يرسل يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم، ولا نبيّ محدث ليس بمرسل).
· فهذا أصل هذا القول، لكن قول من قال (ولم يؤمر بتبليغه) كان هو منشأ الإشكال، ومع ذلك احتمله الجمهور إذ كان الأصلان السابقان متقررين.
· ومن أهل العلم من ردَّ هذا التعبير إذ فهموا من قولهم: (لم يؤمر بالتبليغ) النفي المطلق.
· وفرَّع بعضهم عليه لوازم باطلة ليست مرادة لأصحاب هذا القول.
· وهذا الأمر مما ينبغي لطالب العلم التفطن له، وله نظائر في المسائل العلمية، وهو أن أقوال أهل العلم التي يذكرونها لتوضيح بعض المسائل أو التعبير عن بعض الأقوال بعبارات جامعة مما يقع فيه الاجتهاد لإصابة المعنى المراد ثم قد يكون في تعبيرهم عموم غير مراد إذ ألفاظ العلماء ليست كألفاظ الوحي.
· وطالب التحقيق في هذه المسائل ينبغي له النظر في أصول الأقوال ونشأتها وعبارة العلماء عنها ليضع الأقوال مواضعها، فإن الغالب عليهم أنهم إنما يترجمون عن معان مقررة بعبارات تبينها وتوضح المراد منها حسب اجتهادهم، ويقع في تلك الألفاظ ما لهم فيه مراد وقد يفهمه بعضهم على غير مرادهم.
· فلا ينبغي لطالب العلم أن يحمله الخطأ في التعبير عن القول – إن وجد – على رده جملة؛ فانظر الفرق بين كلام مجاهد والفراء والطبري والخطابي وكلام ابن الأثير والبيهقي ومن تبعهم.
· بل انظر الفرق بين كلام البيهقي وما اشتهر لدى أهل العلم أن الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه.
- فقول البيهقي: (ليعمل به في خاصته) دليل على وجود قدر من التبليغ يؤمر به النبي فبذلك تعلم أن مرادهم هو مراد من تقدم لكنهم أرادوا تفسير لفظ الإرسال بما يبينه لئلا يكرر اللفظ، والتبليغ هو مقتضى الإرسال كما قال تعالى: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾[النحل: 35]؛ ففسروا اللفظ بمقتضاه.
· وقال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) ﴾[الأحزاب: 38، 39].
- فقال: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ﴾[الأحزاب: 38] فذكره بوصف النبوة، ثم قال: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ [الأحزاب: 38] وهم الأنبياء بلا خلاف، ثم وصفهم فقال: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾[الأحزاب: 39].
فالتبليغ من واجبات النبوة.
· فقول هؤلاء العلماء: (وأمر بتبليغه) هو معنى قول من تقدم (وأرسل) لأن الأمر بالتبليغ هو مقتضى الإرسال.
· فليس مرادهم من قولهم: (ولم يؤمر بتبليغه) نفي مطلق الإرسال والتبليغ، وإنما المراد نفي مقتضى ما تختص به منزلة الرسالة عن منزلة النبوة؛ فإن منزلة الرسالة تقتضي تميز (الرسول) برسالة لا يشترك معه فيها (النبي)، وهذا هو القدر المنفي عن النبي في قول العلماء، ولم يريدوا نفي الإرسال عنه جملة.
أقوال العلماء في مسألة الفرق بين الرسول والنبي
· ولأهل العلم في التفريق بين الرسول والنبي أقوال، أشهرها خمسة أقوال:
· القول الأول: هو المتقدم ذكره، وهو أشهر الأقوال، وقد بيَّنت ما فيه من الإشكال وجوابه.
· القول الثاني: أن الرسول هو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عياناً وشفاهاً، والنبي هو الذي تكون نبوّته إلهاماً أو مناماً، وهذا قول الثعلبي في تفسيره، وتبعه الواحدي والبغوي والخازن، وحكاه الماوردي في تفسيره قولاً، ولم يعزه لأحد، وكذلك فعل أبو المظفر السمعاني، وقد اعتمده كثير من الشيعة.
- وهذا القول في التفريق لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نبئ بنزول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[العلق: 1]؛ وأما قول عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح).
- فالمراد به مقدمات النبوة، لا النبوة نفسها، فإن بدء النبوة كان بنزول قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1].
- قال النووي نقلاً عن القاضي عياض وغيره من العلماء: (إنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها قواه البشرية)، وبنحوه قال غير واحد من أهل العلم رحمهم الله تعالى.
· القول الثالث: أن الرسول من أنزل معه كتاب، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله، وهذا قول الزمخشري في تفسيره، واختاره النسفي.
· القول الرابع: الرسول من أرسل إلى قوم مخالفين ليبلغهم رسالة الله، والنبي من كان يعمل بشريعة من قبله، ولم يرسل إلى أحد ليبلغه رسالة الله، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية، نص عليه في رسالة النبوات.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول).
- وكلام شيخ الإسلام يشكل عليه نبوة آدم عليه السلام، وكذلك اشتراط المخالفة في الرسالة إذ لا أعلم عليه دليلاً، وإن كان دليله استقراء أحوال الرسل والأنبياء على ما ذكر في النصوص، فيقال: قد دل النص على أن لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن، والعداوة تقتضي المخالفة وتدل عليها باللزوم، وكذلك المقاتلة كما في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آل عمران: 146]، لكن قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.. ﴾ [الأنعام: 112]، أصرح في الدلالة لشمولها جميع الأنبياء.
· القول الخامس: الرسول من أوحي إليه بشريعة جديدة يدعو الناس إليها، والنبي من بعث لتقرير شرع سابق، وهذا القول ذكره عبد القاهر بن طاهر البغدادي حكاية عن اعتقاد الأشاعرة، واختاره البيضاوي وأبو السعود، وقد حكاه قولاً أبو المظفر السمعاني وأبو حيان،لكن البغدادي ذكر أن آدم عليه السلام هو أول الرسل.
- والبيضاوي أيضاً خالف هذا القول في موضع آخر من تفسيره كما نبَّه إليه العاملي في الكشكول، حيث قال في تفسير سورة مريم في شأن إسماعيل عليه السلام:(﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا﴾[مريم: 51] يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته).
· هذه الأقوال الخمسة هي أشهر الأقوال في هذه المسألة، وفيها أقوال أخرى غير مشتهرة.
· والقول الصحيح هو القول المأثور عن مجاهد رحمه الله، وهو ما قاله الفراء وابن جرير وعليه جمهور أهل العلم لولا ما أثير من الإشكال حول ذلك التعبير الشائع، وقد علمت جوابه.
بلد النبيّ صلى الله عليه وسلم
قوله: (وَبَلَدُهُ مَكَّةُ).
· أي أن بلده الذي نشأ فيه مكة، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وهي أم القرى والبلد الأمين الذي أقسم الله تعالى به فقال: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾[التين: 3] وقال: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: 1، 2].
- المقصود بهذا البلد مكة بإجماع المفسرين.
- وقد ورد من حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عدي رضي الله عنهم أنها أحب البلاد إلى الله.
بم بُعث النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: (بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ).
· النذارة بكسر النون: الإنذار، وهي ضد البِشارة، وأعظم ما أنذر عنه النبي صلى الله عليه وسلم الشرك.
· وأعظم ما دعا إليه التوحيد.
· قوله: (بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ)، بهذا الإطلاق له وجه صحيح، وهو أن الطاعات كلها مردها إلى التوحيد، والتوحيد يكون بالقلب واللسان والجوارح، والمعاصي كلها من جنس الشرك، وقد يكون الشرك أكبر، وقد يكون أصغر، وقد يكون من باب إشراك النفس والهوى بإيثار ما تحبه على ما يحبه الله عز وجل، فيكون في ذلك نوع تشريك.
قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) ﴾[المدثر:1-7]).
· هذه الآيات هي أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي الأولى، كما تقدم بيانه.
· والمدَّثر: أصله: (المتدثّر) ثم أدغمت التاء في الدال وشدِّدَت.
· والمدثر هو المتغطي بالدِّثَار وهو لباس يكون فوق الشعار؛ فالشعار هو اللباس الذي يلي الجسد، والدّثار لباس فوقه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( الأنصار شعار والناس دثار)) متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
· قال الفراء وأبو معمر وابن قتيبة وابن جرير وغيرهم: المدثر هو المتدثر بثيابه إذا نام.
· وقال إبراهيم النخعي: كان متدثراً بقطيفة.
قوله: (وَمَعْنَى: ﴿قمْ فَأَنْذِرْ﴾ يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ).
· قال ابن جرير: (وقوله: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قم من نومك فأنذر عذابَ الله قومك الذين أشركوا بالله، وعبدوا غيره).
· والإنذار يكون من العذاب وسببه؛ فالشرك سبب للعذاب، والنار وما يعاقب الله به المشكرين عذاب، ويقع الإنذار من هذا وهذا.
قوله: (﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ).
· قال ابن جرير: (﴿وَرَبَّكَ﴾ يا محمد فعظم بعبادته، والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد).
· فالتكبير هو التعظيم كما قال الله تعالى: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾[الإسراء: 111].
· قال الشنقيطي: (﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾[الإسراء: 111] أي: عظمه تعظيماً شديداً، ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه، والمسارعة إلى كل ما يرضيه: كقوله تعالى:﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾[الحج: 37]، ونحوها من الآيات).
قوله: (﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ).
· هذا أحد الأقوال في تفسير هذه الآية، أن الطهارة فيه معنوية، والعرب تسمي الرجل الذي يتعفف ويتنزه عن المعايب والفواحش والمكاسب المحرمة نقي الثياب، وطاهر الثياب، وطيب الأردان، ومنه قول امرئ القيس:
ثِيابُ بَني عَوفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ ... وَأَوجُهُهُم عِندَ المُشاهدِ غرّان
· كما يسمون الفاجر والغادر والفاحش وآكل السحت دنس الثياب، ومنه قول الشاعر فيما أورده ابن قتيبة: لاهمَّ إن عامر بن جهم ... أوذمَ حجاً في ثيابٍ دُسْمِ
- أوذم: أي عزم وأوجب، والثياب الدسم هي المتسخة.
· وقد روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم أنشد قول غيلان الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
· والمقصود أن تطهير الثياب يراد به تطهير النفس من النجاسات المعنوية، وأشدها الشرك.
قوله: (﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ الرُّجْزُ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا وَأَهْلِهَا، وَالبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا، وَعَدَاوَتُها وَأَهْلِهَا، وَفِرَاقُهَا وَأَهْلِهَا).
· والرّجز: الأوثان، تضم الراء وتكسر، وهما قراءتان.
· وقد قال الله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30].
· قال ابن المبارك اليزيدي: (الرجز والرجس واحد).
· وقد قيل في اشتقاق هذه العبارة أن هذا الأصل الذي هو الـراء والجيم والزاي (ر ج ز) يفيد الاضطراب, ويفيد المهانة أيضا, فيه معنى الاضطراب وفيه معنى الامتهان, لأن أصل الرجز في اللغة هو داءٌ يصيب أعجاز الإبل فتضطرب منه أي: تتحرك حركة مضطربة.
- قال ابن فارس: (الراء والجيم والزاء أصلٌ يدلُّ على اضطرابٍ. من ذلك الرّجزُ: داءٌ يصيبُ الإبلَ في أعجازِها، فإذا ثارت النّاقةُ ارتعشَتْ فَخِذاها، ومن هذا اشتقاق الرَّجَزِ من الشِّعر؛ لأنه مقطوع مضطرب).
· والشرك فيه اضطراب؛ لأنه على غير قرار ولا يستند لحجة ولا يطمئن قلب صاحبه، بل هو مضطرب في اعتقاده، مضطرب في سلوكه، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾[الحج: 31]، وقال: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ [إبراهيم: 26]، وفيه أيضاً معنى الامتهان: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾[الحج: 18].
· ولا يسلم العبد من هذا الاضطراب والامتهان إلا بالتوحيد؛ فإنه بالتوحيد يتطهر ويزكو ويطمئن، فيكون طيباً مباركاً ثابتاً على يقين وبينة من أمره، يمشي سوياً على صراط مستقيم.
قوله: (أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ).
· أي من بعثته، مكث عشر سنين ودعوته إلى التوحيد ونبذ الشرك، قبل أن تفرض الصلاة والزكاة والصيام والحج وكثير من أحكام العبادات والمعاملات.
· وهذا يدل على أهمية التوحيد، وأهمية الدعوة إليه، وأنه أصل الدين، وأولى ما يعتنى به.
قوله: (وَبَعْدَ العَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ).
· أي وبعد عشر سنين من البعثة عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
· وفرضت عليه وعلى المسلمين الصلوات الخمس، وهي خمس في العدد وخمسون في الأجر.
قوله: (وَصَلَّى في مَكَّةَ ثَلاَثَ سِنِينَ).
· يقصد صلى الصلوات الخمس، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم قد فرض عليه قيام الليل لما نزلت سورة المزمل ثم نسخ هذا الإيجاب.
· وتأريخ فرض الصلوات الخمس مختلف فيه بين أهل العلم حتى ذكر ابن حجر أن في هذه المسألة نحو عشرة أقوال لأهل العلم، لكن أشهرها ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أنه قبل الهجرة بنحو سنة، وهذا قول ابن سعد في الطبقات وقول إبراهيم الحربي وابن حزم وجماعة من أهل العلم، ومنهم من يزيد أشهراً وينقص أشهراً.
- القول الثاني: أنه قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا القول حكاه ابن حجر عن ابن الأثير، وقال به ابن قدامة في المغني، قال ابن رجب: (وهو أشهَر).
- القول الثالث: أنه بعد البعثة بخمس سنين، وهو قول الزهري، ورجحه النووي.
والمسألة بحاجة إلى مزيد بحث، والله تعالى أعلم.
قوله: (وَبَعْدَهَا أُمِرَ بِالهِجْرَةِ إِلى المَدِينَةِ).
· أي بعد ثلاثة عشرة سنة، كما دل عليه حديث ابن عباس في صحيح البخاري وغيره، وقد تقدم ذكره.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وهو معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم (2/2)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(نُبِّئَ بِإقْرَا، وَأُرْسِلَ بِالمُدَّثِّرِ، وَبَلَدُهُ مَكَّةُ.
بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [المدثر:1-7].
وَمَعْنَى: ﴿قمْ فَأَنْذِرْ﴾ يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ.
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ الرُّجْزُ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا وَأَهْلِهَا، وَالبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا، وَعَدَاوَتُها وَأَهْلِهَا، وَفِرَاقُهَا وَأَهْلِهَا.
أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ، وَبَعْدَ العَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَصَلَّى في مَكَّةَ ثَلاَثَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا أُمِرَ بِالهِجْرَةِ إِلى المَدِينَةِ).
عناصر الدرس:
· شرح قوله: (نبّئ بإقرأ وأرسل بالمدثر)
· الفرق بين الرسول والنبي
· بلد النبيّ صلى الله عليه وسلم
· بم بُعث النبي صلى الله عليه وسلم
· تفسير صدر سورة المدّثر
· مدّة مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد البعثة
· فرض الصلوات الخمس.
قوله: (نُبِّئَ بِإقْرَا، وَأُرْسِلَ بِالمُدَّثِّرِ).
· النبوَّة منزلة يختص الله بها من يشاء من عباده؛ فيوحي إليهم من أمره ما يشاء.
· وقد ختمت النبوة بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40].
· وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ، وإنه لا نبيَّ بعدي، وسيكون خلفاء فيكثُرون))قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (( أوفوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)).
· وقد أجمع أهل العلم على ختم النبوة والرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا نبي بعده ولا رسول.
· وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم وغيرها من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي)).قال: فشقَّ ذلك على الناس.
قال: قال:(( ولكن المبشرات ))، قالوا: يا رسول الله وما المبشرات؟
قال: (( رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة )). صححه الألباني.
· فكل من ادَّعى النبوة أو الرسالة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهو كذاب.
· قوله: (نُبِّئَ بِإقْرَأ) أي كان مبدأ نبوته عليه السلام لما نزل عليه أول سورة العلق: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾[العلق: 1-5].
- وخبر بدء الوحي رواه البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها.
- وما كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤى الصادقة قبل الوحي هو من إرهاصات النبوة والتهيئة لها.
- وبدأت النبوة ببدء الوحي لما نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء بأول سورة العلق.
· ثم فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، واختلف في مدة فترة الوحي على أقوال:
- فقال الشعبي: كانت مدة فترة الوحي سنتان ونصف، رواه عنه الإمام أحمد في التاريخ كما في فتح الباري لابن حجر، وهو قول بعيد.
- وروى ابن سعد عن ابن عباس أنها كانت أياماً، لكن إسناد هذه الرواية واهٍ جداً.
- والله أعلم بمدة تلك الفترة، لكن صح أن أوَّل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي أول سورة المدثر.
- في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه:(( بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري؛ فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ففَرَقْتُ منه فرجعت فقلت زملوني زملوني؛ فدثروني؛ فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾[المدثر: 1-5] )).وهي الأوثان، قال: ثم تتابع الوحي).
- الذي قال في تفسير الرُّجز: (وهي الأوثان) هو أبو سلمة بن عبد الرحمن كما في رواية عند البخاري: قال: (وهي الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدون).
- وفي رواية في صحيح البخاري أيضاً أن هذه الحادثة كانت قبل أن تفرض الصلاة.
· قوله: (وَأُرْسِلَ بِالمُدَّثِّرِ) يريد أن نزول صدر سورة المدثر كان بداية الرسالة، لما تضمنته من الأمر بالنذارة.
· وهذا الاستنباط قد قال به جماعة من أهل العلم.
· قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية لما ذكر أن أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم سورة اقرأ ثم سورة المدثر قال: (وبهذا حصل الإرسال إلى الناس، وبالأول حصلت النبوة).
· وقال نحو هذا القول الحليمي شيخ البيهقي، وابن تيمية في منهاج السنة النبوية.
الفرق بين الرسول والنبي
· والتفريق بين الرسول والنبي من المسائل التي كثرت فيها أقوال أهل العلم وحصل فيها لبس واشتباه، وفيها مواضع متفق عليها.
· وتلخيص ذلك أن الفرق بين الرسول والنبي يتضح ببيان أمرين:
· الأمر الأول: أن النبوة منزلة، والرسالة منزلة أخص منها، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول، وهذا الأمر عليه قول جماهير العلماء ولا أعرف إماماً معروفاً بالعلم والإمامة في الدين يخالف في هذا القول.
- وقد نقل عن بعض المعتزلة أنه لا فرق بين الرسول والنبي، وقال به بعض من اشتبه عليه الأمر من أهل السنة، فإنهم زعموا أن لا فرق بين الرسول والنبي فكل رسول نبي وكل نبي رسول، وهذا الزعم باطل؛ فإن الفرق بين الرسول والنبي متحقق لدلالة قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ...﴾[الحج: 52] الآية، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ﴾[الأعراف: 157]، وقوله: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ﴾[الأعراف: 158]، وقوله تعالى عن بعض أنبيائه: ﴿وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾[مريم: 51].
- ولما في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل "اللهم إني أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذى أرسلت؛ فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به))، قال البراء بن عازب: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت "اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت" قلت: "ورسولك"، قال: (( لا، ونبيك الذي أرسلت)).
- ولدلالة حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في حديث الشفاعة الطويل وفيه أن الناس يأتون نوحاً فيقولون له: (أنت نوح أول الرسل إلى أهل الأرض). وقد علم بنص الحديث أن آدم عليه السلام نبي مكلم.
· الأمر الثاني: بيان الفرق بين مطلق الإرسال ومنزلة الرسالة؛ فمطلق الإرسال حاصل للأنبياء كلهم كما دل عليه قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: 52].
· فالرسول مرسل، والنبي مرسل، لكن رسالة الرسول أخص من رسالة النبي ومنزلة الرسالة أخص وأعلى من منزلة النبوة ولذلك قدم ذكر الرسول على ذكر النبي في هذه الآية.
· ويدل على ثبوت قدر من الإرسال للأنبياء ما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم)).
· فهذا حق واجب على جميع الأنبياء لم يستثن منه أحد منهم.
· وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن الناس يأتون نوحاً فيقولون له: (يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض) فعلم بذلك أن نوحاً عليه السلام أول الرسل، ونبوة آدم عليه السلام ثابتة، بل هو نبي مكلَّم كما في حديث أبي ذر وأبي أمامة في المسند والمستدرك وغيرهما، وتكليم الله تعالى لآدم ثابت بنص القرآن، ولا بد له ولمن معه من شرع يتعبدون الله تعالى به كما قال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة: 48]،وقد قال الله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38]، واتباع الهدى هو امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، وهو معنى الشريعة.
· وهذا يقتضي أنه أمر بتبليغ ذلك الهدى زوجه وذريته، ومع ذلك فهو نبي مكلم وليس برسول لدلالة حديث أبي هريرة.
· ونظير هذه المسألة مسألة الإيمان والإسلام؛ فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم بمؤمن، ولا بد في الإسلام من قدر من الإيمان يصح به، وإلا فلو انتفى الإيمان جملة عن العبد لانتفى عنه الإسلام جملة.
· والمقصود أن الرسالة منزلة أخص من منزلة النبوة وأعلى منها، كما أن الرسل أيضاً على منازل متفاضلة بعضهم أفضل من بعض كما قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾[البقرة: 253] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾[الإسراء: 55].
· وأفضل الرسل أولوا العزم الخمسة المذكورون في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾[الشورى: 13]، وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾[الأحزاب: 7].
- وأفضل الخمسة الخليلان محمد وإبراهيم عليهما السلام.
- وأفضل الخليلين نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
توضيح
· من أهل العلم من يقول: إن الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ.
· وهذا القول اشتهر عند أهل العلم وفي نشأته والتعبير عنه بهذا التعبير لبس ينبغي توضيحه حتى يتضح الأمر لطالب العلم.
· وأول من نُسب إليه هذا القول بهذا التعبير فيما أعلم أبو سليمان الخطابي (388هـ) رحمه الله، ونص كلامه في كتابه أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري: (والفرق بين النبي والرسول أن النبيَّ هو المنبَّأُ –فعيل بمعنى مُفعَل– والرسول هو المأمور بتبليغ ما نُبِّئَ وأُخبر به؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا).
· وهذا القول اختصره ابن الأثير في جامع الأصول فقال: (قال الخطابي: والفرق بين النبي والرسول: أن الرسول هو المأمور بتبليغ ما أنبئ وأخبر به، والنبي هو المخبَر ولم يؤمر بالتبليغ، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا).
· فأضاف كلمة (ولم يؤمر بالتبليغ) من باب التوضيح لما فهمه، واشتهر هذا التعريف لدى المتأخرين لشهرة الكتاب، ولنسبة هذا القول لأبي سليمان الخطابي رحمه الله وهو من أجلّ شراح الأحاديث.
· وقد قال بنحو هذه الإضافة البيهقي (ت:458هـ) رحمه الله فقال: (والنبوة اسم مشتق من النبأ وهو الخبر إلا أنَّ المراد به في هذا الموضع خبر خاص، وهو الذي يكرم الله عز وجل به أحدا من عباده فيميزه عن غيره بإلقائه إليه، ويوقفه به على شريعته بما فيها من أمر ونهي ووعظ وإرشاد ووعد ووعيد؛ فتكون النبوة على هذا الخبر والمعرفة بالمخبرات الموصوفة فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المخبر بها؛ فإن انضاف إلى هذا التوقيف أمرٌ بتبليغه الناس ودعائهم إليه كان نبيا ورسولا، و إن ألقي إليه ليعمل به في خاصته ولم يؤمر بتبليغه والدعاء إليه كان نبيا ولم يكن رسولا؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا).
· وهذا القول في أصله مأثور عن مجاهد بن جبر فيما رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما ذكره السيوطي في الدر المنثور، وهو موجود في التفسير المطبوع باسم تفسير مجاهد، وهو الذي يرويه عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني وجادة عن إبراهيم بن ديزيل الحافظ أنبأنا آدم بن أبي إياس، قال أنبأنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿رسولاً نبياً﴾ [مريم: 51] قال: (النبي هو الذي يُكَلَّم ويُنْزَلُ عليه ولا يُرْسَلُ، والرسولُ هو الذي يُرسَل).
· وقال الفراء: (فالرسول النبيّ المرسل، والنبي: المحدَّث الذي لم يُرسَل).
· وقال ابن جرير في آية الحج: (فتأويل الكلام: ولم يرسل يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم، ولا نبيّ محدث ليس بمرسل).
· فهذا أصل هذا القول، لكن قول من قال (ولم يؤمر بتبليغه) كان هو منشأ الإشكال، ومع ذلك احتمله الجمهور إذ كان الأصلان السابقان متقررين.
· ومن أهل العلم من ردَّ هذا التعبير إذ فهموا من قولهم: (لم يؤمر بالتبليغ) النفي المطلق.
· وفرَّع بعضهم عليه لوازم باطلة ليست مرادة لأصحاب هذا القول.
· وهذا الأمر مما ينبغي لطالب العلم التفطن له، وله نظائر في المسائل العلمية، وهو أن أقوال أهل العلم التي يذكرونها لتوضيح بعض المسائل أو التعبير عن بعض الأقوال بعبارات جامعة مما يقع فيه الاجتهاد لإصابة المعنى المراد ثم قد يكون في تعبيرهم عموم غير مراد إذ ألفاظ العلماء ليست كألفاظ الوحي.
· وطالب التحقيق في هذه المسائل ينبغي له النظر في أصول الأقوال ونشأتها وعبارة العلماء عنها ليضع الأقوال مواضعها، فإن الغالب عليهم أنهم إنما يترجمون عن معان مقررة بعبارات تبينها وتوضح المراد منها حسب اجتهادهم، ويقع في تلك الألفاظ ما لهم فيه مراد وقد يفهمه بعضهم على غير مرادهم.
· فلا ينبغي لطالب العلم أن يحمله الخطأ في التعبير عن القول – إن وجد – على رده جملة؛ فانظر الفرق بين كلام مجاهد والفراء والطبري والخطابي وكلام ابن الأثير والبيهقي ومن تبعهم.
· بل انظر الفرق بين كلام البيهقي وما اشتهر لدى أهل العلم أن الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه.
- فقول البيهقي: (ليعمل به في خاصته) دليل على وجود قدر من التبليغ يؤمر به النبي فبذلك تعلم أن مرادهم هو مراد من تقدم لكنهم أرادوا تفسير لفظ الإرسال بما يبينه لئلا يكرر اللفظ، والتبليغ هو مقتضى الإرسال كما قال تعالى: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾[النحل: 35]؛ ففسروا اللفظ بمقتضاه.
· وقال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) ﴾[الأحزاب: 38، 39].
- فقال: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ﴾[الأحزاب: 38] فذكره بوصف النبوة، ثم قال: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ [الأحزاب: 38] وهم الأنبياء بلا خلاف، ثم وصفهم فقال: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾[الأحزاب: 39].
فالتبليغ من واجبات النبوة.
· فقول هؤلاء العلماء: (وأمر بتبليغه) هو معنى قول من تقدم (وأرسل) لأن الأمر بالتبليغ هو مقتضى الإرسال.
· فليس مرادهم من قولهم: (ولم يؤمر بتبليغه) نفي مطلق الإرسال والتبليغ، وإنما المراد نفي مقتضى ما تختص به منزلة الرسالة عن منزلة النبوة؛ فإن منزلة الرسالة تقتضي تميز (الرسول) برسالة لا يشترك معه فيها (النبي)، وهذا هو القدر المنفي عن النبي في قول العلماء، ولم يريدوا نفي الإرسال عنه جملة.
أقوال العلماء في مسألة الفرق بين الرسول والنبي
· ولأهل العلم في التفريق بين الرسول والنبي أقوال، أشهرها خمسة أقوال:
· القول الأول: هو المتقدم ذكره، وهو أشهر الأقوال، وقد بيَّنت ما فيه من الإشكال وجوابه.
· القول الثاني: أن الرسول هو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عياناً وشفاهاً، والنبي هو الذي تكون نبوّته إلهاماً أو مناماً، وهذا قول الثعلبي في تفسيره، وتبعه الواحدي والبغوي والخازن، وحكاه الماوردي في تفسيره قولاً، ولم يعزه لأحد، وكذلك فعل أبو المظفر السمعاني، وقد اعتمده كثير من الشيعة.
- وهذا القول في التفريق لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نبئ بنزول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[العلق: 1]؛ وأما قول عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح).
- فالمراد به مقدمات النبوة، لا النبوة نفسها، فإن بدء النبوة كان بنزول قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1].
- قال النووي نقلاً عن القاضي عياض وغيره من العلماء: (إنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها قواه البشرية)، وبنحوه قال غير واحد من أهل العلم رحمهم الله تعالى.
· القول الثالث: أن الرسول من أنزل معه كتاب، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله، وهذا قول الزمخشري في تفسيره، واختاره النسفي.
· القول الرابع: الرسول من أرسل إلى قوم مخالفين ليبلغهم رسالة الله، والنبي من كان يعمل بشريعة من قبله، ولم يرسل إلى أحد ليبلغه رسالة الله، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية، نص عليه في رسالة النبوات.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول).
- وكلام شيخ الإسلام يشكل عليه نبوة آدم عليه السلام، وكذلك اشتراط المخالفة في الرسالة إذ لا أعلم عليه دليلاً، وإن كان دليله استقراء أحوال الرسل والأنبياء على ما ذكر في النصوص، فيقال: قد دل النص على أن لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن، والعداوة تقتضي المخالفة وتدل عليها باللزوم، وكذلك المقاتلة كما في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آل عمران: 146]، لكن قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.. ﴾ [الأنعام: 112]، أصرح في الدلالة لشمولها جميع الأنبياء.
· القول الخامس: الرسول من أوحي إليه بشريعة جديدة يدعو الناس إليها، والنبي من بعث لتقرير شرع سابق، وهذا القول ذكره عبد القاهر بن طاهر البغدادي حكاية عن اعتقاد الأشاعرة، واختاره البيضاوي وأبو السعود، وقد حكاه قولاً أبو المظفر السمعاني وأبو حيان،لكن البغدادي ذكر أن آدم عليه السلام هو أول الرسل.
- والبيضاوي أيضاً خالف هذا القول في موضع آخر من تفسيره كما نبَّه إليه العاملي في الكشكول، حيث قال في تفسير سورة مريم في شأن إسماعيل عليه السلام:(﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا﴾[مريم: 51] يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته).
· هذه الأقوال الخمسة هي أشهر الأقوال في هذه المسألة، وفيها أقوال أخرى غير مشتهرة.
· والقول الصحيح هو القول المأثور عن مجاهد رحمه الله، وهو ما قاله الفراء وابن جرير وعليه جمهور أهل العلم لولا ما أثير من الإشكال حول ذلك التعبير الشائع، وقد علمت جوابه.
بلد النبيّ صلى الله عليه وسلم
قوله: (وَبَلَدُهُ مَكَّةُ).
· أي أن بلده الذي نشأ فيه مكة، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وهي أم القرى والبلد الأمين الذي أقسم الله تعالى به فقال: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾[التين: 3] وقال: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: 1، 2].
- المقصود بهذا البلد مكة بإجماع المفسرين.
- وقد ورد من حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عدي رضي الله عنهم أنها أحب البلاد إلى الله.
بم بُعث النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: (بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ).
· النذارة بكسر النون: الإنذار، وهي ضد البِشارة، وأعظم ما أنذر عنه النبي صلى الله عليه وسلم الشرك.
· وأعظم ما دعا إليه التوحيد.
· قوله: (بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ)، بهذا الإطلاق له وجه صحيح، وهو أن الطاعات كلها مردها إلى التوحيد، والتوحيد يكون بالقلب واللسان والجوارح، والمعاصي كلها من جنس الشرك، وقد يكون الشرك أكبر، وقد يكون أصغر، وقد يكون من باب إشراك النفس والهوى بإيثار ما تحبه على ما يحبه الله عز وجل، فيكون في ذلك نوع تشريك.
قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) ﴾[المدثر:1-7]).
· هذه الآيات هي أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي الأولى، كما تقدم بيانه.
· والمدَّثر: أصله: (المتدثّر) ثم أدغمت التاء في الدال وشدِّدَت.
· والمدثر هو المتغطي بالدِّثَار وهو لباس يكون فوق الشعار؛ فالشعار هو اللباس الذي يلي الجسد، والدّثار لباس فوقه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( الأنصار شعار والناس دثار)) متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
· قال الفراء وأبو معمر وابن قتيبة وابن جرير وغيرهم: المدثر هو المتدثر بثيابه إذا نام.
· وقال إبراهيم النخعي: كان متدثراً بقطيفة.
قوله: (وَمَعْنَى: ﴿قمْ فَأَنْذِرْ﴾ يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ).
· قال ابن جرير: (وقوله: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قم من نومك فأنذر عذابَ الله قومك الذين أشركوا بالله، وعبدوا غيره).
· والإنذار يكون من العذاب وسببه؛ فالشرك سبب للعذاب، والنار وما يعاقب الله به المشكرين عذاب، ويقع الإنذار من هذا وهذا.
قوله: (﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ).
· قال ابن جرير: (﴿وَرَبَّكَ﴾ يا محمد فعظم بعبادته، والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد).
· فالتكبير هو التعظيم كما قال الله تعالى: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾[الإسراء: 111].
· قال الشنقيطي: (﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾[الإسراء: 111] أي: عظمه تعظيماً شديداً، ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه، والمسارعة إلى كل ما يرضيه: كقوله تعالى:﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾[الحج: 37]، ونحوها من الآيات).
قوله: (﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ).
· هذا أحد الأقوال في تفسير هذه الآية، أن الطهارة فيه معنوية، والعرب تسمي الرجل الذي يتعفف ويتنزه عن المعايب والفواحش والمكاسب المحرمة نقي الثياب، وطاهر الثياب، وطيب الأردان، ومنه قول امرئ القيس:
ثِيابُ بَني عَوفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ ... وَأَوجُهُهُم عِندَ المُشاهدِ غرّان
· كما يسمون الفاجر والغادر والفاحش وآكل السحت دنس الثياب، ومنه قول الشاعر فيما أورده ابن قتيبة: لاهمَّ إن عامر بن جهم ... أوذمَ حجاً في ثيابٍ دُسْمِ
- أوذم: أي عزم وأوجب، والثياب الدسم هي المتسخة.
· وقد روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم أنشد قول غيلان الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
· والمقصود أن تطهير الثياب يراد به تطهير النفس من النجاسات المعنوية، وأشدها الشرك.
قوله: (﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ الرُّجْزُ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا وَأَهْلِهَا، وَالبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا، وَعَدَاوَتُها وَأَهْلِهَا، وَفِرَاقُهَا وَأَهْلِهَا).
· والرّجز: الأوثان، تضم الراء وتكسر، وهما قراءتان.
· وقد قال الله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30].
· قال ابن المبارك اليزيدي: (الرجز والرجس واحد).
· وقد قيل في اشتقاق هذه العبارة أن هذا الأصل الذي هو الـراء والجيم والزاي (ر ج ز) يفيد الاضطراب, ويفيد المهانة أيضا, فيه معنى الاضطراب وفيه معنى الامتهان, لأن أصل الرجز في اللغة هو داءٌ يصيب أعجاز الإبل فتضطرب منه أي: تتحرك حركة مضطربة.
- قال ابن فارس: (الراء والجيم والزاء أصلٌ يدلُّ على اضطرابٍ. من ذلك الرّجزُ: داءٌ يصيبُ الإبلَ في أعجازِها، فإذا ثارت النّاقةُ ارتعشَتْ فَخِذاها، ومن هذا اشتقاق الرَّجَزِ من الشِّعر؛ لأنه مقطوع مضطرب).
· والشرك فيه اضطراب؛ لأنه على غير قرار ولا يستند لحجة ولا يطمئن قلب صاحبه، بل هو مضطرب في اعتقاده، مضطرب في سلوكه، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾[الحج: 31]، وقال: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ [إبراهيم: 26]، وفيه أيضاً معنى الامتهان: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾[الحج: 18].
· ولا يسلم العبد من هذا الاضطراب والامتهان إلا بالتوحيد؛ فإنه بالتوحيد يتطهر ويزكو ويطمئن، فيكون طيباً مباركاً ثابتاً على يقين وبينة من أمره، يمشي سوياً على صراط مستقيم.
قوله: (أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ).
· أي من بعثته، مكث عشر سنين ودعوته إلى التوحيد ونبذ الشرك، قبل أن تفرض الصلاة والزكاة والصيام والحج وكثير من أحكام العبادات والمعاملات.
· وهذا يدل على أهمية التوحيد، وأهمية الدعوة إليه، وأنه أصل الدين، وأولى ما يعتنى به.
قوله: (وَبَعْدَ العَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ).
· أي وبعد عشر سنين من البعثة عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
· وفرضت عليه وعلى المسلمين الصلوات الخمس، وهي خمس في العدد وخمسون في الأجر.
قوله: (وَصَلَّى في مَكَّةَ ثَلاَثَ سِنِينَ).
· يقصد صلى الصلوات الخمس، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم قد فرض عليه قيام الليل لما نزلت سورة المزمل ثم نسخ هذا الإيجاب.
· وتأريخ فرض الصلوات الخمس مختلف فيه بين أهل العلم حتى ذكر ابن حجر أن في هذه المسألة نحو عشرة أقوال لأهل العلم، لكن أشهرها ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أنه قبل الهجرة بنحو سنة، وهذا قول ابن سعد في الطبقات وقول إبراهيم الحربي وابن حزم وجماعة من أهل العلم، ومنهم من يزيد أشهراً وينقص أشهراً.
- القول الثاني: أنه قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا القول حكاه ابن حجر عن ابن الأثير، وقال به ابن قدامة في المغني، قال ابن رجب: (وهو أشهَر).
- القول الثالث: أنه بعد البعثة بخمس سنين، وهو قول الزهري، ورجحه النووي.
والمسألة بحاجة إلى مزيد بحث، والله تعالى أعلم.
قوله: (وَبَعْدَهَا أُمِرَ بِالهِجْرَةِ إِلى المَدِينَةِ).
· أي بعد ثلاثة عشرة سنة، كما دل عليه حديث ابن عباس في صحيح البخاري وغيره، وقد تقدم ذكره.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.