هيئة الإشراف
_10 _January _2014هـ الموافق 10-01-2014م, 07:11 PM
الدرس العشرون: البعث والجزاء
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُوا يُبْعَثُونَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه:55]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿واللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً﴾ [نوح:17-18].
وَبَعْدَ البَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ليَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى﴾ [النجم:31].
وَمَنْ كَذَّبَ بِالبَعْثِ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن:7]).
قال رحمه الله: (وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:165]).
عناصر الدرس:
· البعث بعد الموت
· الحساب والجزاء
· خلاصات نافعة في علم الجزاء
· كفر من كذَّب بالبعث
· مقاصد إرسال الرسل
- حكم طلب العلم
- المقصد الأول: إقامة الحجة
- المقصد الثاني: بشارة المطيعين
- المقصد الثالث: إنذار العصاة
· حكم أهل الفترة
البعث بعد الموت
قوله: (وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُوا يُبْعَثُونَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿واللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً﴾).
· مسألة البعث من المسائل الجليلة العظيمة في دين الإسلام, بل هي أصل من أصول الإيمان والذي لايؤمن بالبعث بعد الموت لايؤمن بما يترتب عليه من الحساب والجزاء.
· ولأهمية هذا الأصل وشناعة كفر من كذَّب به تكرر التأكيد عليه في القرآن العظيم كثيراً، وأكَّد الله تعالى بيان البعث بأنواع من الأدلة والتأكيدات:
- قال الله تعالى: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾[التغابن: 7] فبيَّن صحة البعث بالقَسَم، وهذا تأكيد لوقوعه.
- وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾[الحج: 5] فبيَّن أن بدأه لخلقنا من تراب, ثم من نطفة دليل على أنه قادر على أن يبعثنا بعد الموت؛ فالذي خلقنا ولم نكن من قبل شيئا, قادر على أن يعيدنا إلى الحياة الدنيا بعد موتنا, فهذا استدلال بالبدء على إمكان الإعادة، وهو دليل عظيم القدر تكرر تأكيده في القرآن كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[الروم: 27].
- وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[فصلت: 39] فبين لنا مثالا مما نراه بأعيننا, وهو إحياء الأرض بالماء والنبات بعد موتها, فالذي أحياها قادر على أن يحيي الموتى, وهذا استدلال بالنظير؛ فالذي يقدر على هذا الأمر يقدر على نظيره.
· وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الأحقاف: 33] وهذا استدلالٌ بالأولى, فإنَّ من قدر على خلق الأكبر والأشد قادر على خلق ما هو دونه, كما قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[غافر: 57].
· وقال تعالى: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾[لقمان: 28]، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[غافر: 68]، وقال تعالى: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة: 148] وهذا استدلال بالقدرة المطلقة التي يعجزها شيء.
· وقال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾[المؤمنون: 115، 116] فاستدل هنا بدليل الحكمة والغاية, فإن الله لم يخلق هذا الخلق العظيم عبثا, وإنما خلقه لحكمة عظيمة, فالعاقل يسأل نفسه لم خلق؟ ولماذا خلق الله هذه لمخلوقات؟
· فانظر كيف نوَّع الله تعالى هذه الأدلة في كتابه الكريم, تأكيداً لوقوع البعث، وأنه حق لا ريب فيه.
· وهذه الأدلة مجموعة في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) ﴾[يس: 77-83].
· فتضمنت هذه الآيات, ذكر أنواع من الأدلة على البعث:فذكر دليل البدء, ودليل النظير, ودليل الأولى, ودليل القدرة المطلقة, ودليل الحكمة والتنزيه عن العبث, فهذه أدلة ظاهرة من تأملها أيقن يقينا تاما بالبعث.
· والإيمان بالبعث يستلزم الإيمان بما يكون بعده من الحساب والجزاء.
الحساب والجزاء
قوله: (وَبَعْدَ البَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ليَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى﴾[النجم:31]).
· الإيمان بالحساب والجزاء أصل مهم من أصول الإيمان، وهو من الإيمان بالغيب.
· والحساب والجزاء من أعظم ما يكون يوم القيامة بل لعظم ذلك سمي يوم القيامة بيوم الحساب كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[ص: 26].
· وسمي بيوم الدّين أي الحساب والجزاء الذي يدان فيه الناس بأعمالهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) ﴾[الصافات: 15-21].
· وتوعَّد الله تعالى من أنكر البعث والحساب بالنار فقال تعالى: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾[الذاريات: 10-14].
- سؤالهم: (أيان يوم الدين) سؤال تعجب وإنكار وتعجيز واستبعاد لوقوعه حتى إنهم من فرط تكذيبهم وإنكارهم يستعجلونه فيقولون للمؤمنين ﴿متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾ [الملك: 25]؛ فبكَّتهم الله بهذه الآيات، وتوعَّدهم على تكذيبهم وغفلتهم عن يوم الحساب الوعيدَ الشديد والعذاب الأليم.
· والإيمان بالحساب والجزاء له آثاره على المؤمن في عباداته وسلوكه فإنَّ من يعلم أن ما يعمله من خير أو شر سيحاسب عليه ويجزى به فإنه حري به أن يجتهد في اكتساب الأعمال الصالحة رجاء انتفاعه بها يوم الحساب والجزاء، ويجتنب السيئات مخافة عقوبتها يوم الحساب والجزاء.
· ويحمله ذلك على إحسان معاملته للناس ابتغاء ثواب الله عز وجل، واجتناب الظلم والعداون مخافة أن يجازى على ظلمه لهم فيقتصوا منه يوم القيامة بما يُعطون من حسناته أو يُلقى إليه من سيئاتهم.
· وبهذا يتبيَّن أن العبد لا يعاقب إلا بأحد سببين:
- السبب الأول: تقصيره في حق الله عز وجل، بارتكابه بعض المحرمات، أو تركه بعض الواجبات؛ فيعذب على ذلك ما لم يعمل ما يرفع عنه العذاب من توبة صادقة أو حسنات ماحيةٍ للسيئات أو يدركه سببٌ يرفع الله به عنه العذاب.
- السبب الآخر: تقصيره في حقوق الناس؛ إما بمنعهم ما يستحقون من الحقوق الواجبة لهم عليه، أو الاعتداء عليهم بقول أو فعل، وكلاهما ظلم؛ فإن الظلم يشمل منع المستحق حقَّه، والعدوان على المعصوم.
· فمنْ أدَّى حقَّ الله عزَّ وجلَّ وحقَّ عباده فإنه لا يُعاقب أبداً؛ لأن العقوبة لا تكون إلا على ذنب؛ والذنب إما أن يكون في حق الله عز وجل، وإما أن يكون في حق عباده.
· وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينجِّي المؤمن من العذاب بوصية جامعة فقال: (( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)). رواه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث معاذ بن جبل وحديث أبي ذر رضي الله عنهما.
· وباب الإيمان بالحساب والجزاء له تفاصيل ذكرها الأئمة في كتب الاعتقاد وذكرها المفسرون وشراح الأحاديث، وفيها مسائل جليلة ينبغي للعبد أن يتأملها ويعتني بها.
· وقد ذكر بعض أهل العلم أن علم الجزاء ثلث العلم، كما قال ابن القيم رحمه الله:
والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن
والأمـر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكل في القرآن والسنن التي ... جاءت عن المبعوث بالفرقان
- فجعل العلوم ثلاثة: علم العقيدة وعلم الشريعة وعلم الجزاء.
- ولو أنه قال: (وجزاؤه بالعدل والإحسان) لكان أجود، ليعم الجزاء الدنيوي والأخروي، وليبين أن جزاء الله تعالى لا ظلم فيه بل هو مبني على العدل والإحسان.
· والمقصود أن علم الجزاء من العلوم الجليلة النافعة لأنه العلم الذي يَعرف به العبدُ ثوابَ حسناته وعقاب سيئاته، وسُبُلَ مضاعفة الحسنات والوقاية من السيئات وعقوباتها.
· وقد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك رسالة جليلة نافعة طبعت باسم (الحسنة والسيئة)، وله رسالة في (مكفِّرات الذنوب).
· ومقصود هذا الفصل من هذا الدرس هو بيان وجوب الإيمان بالحساب والجزاء، وأنَّ من أنكره فهو كافرٌ كفراً أكبر بإجماع العلماء، وأن المؤمن يجب عليه أن يجتنب ما يعاقب عليه يوم الحساب.
خلاصات نافعة في علم الجزاء
· هذه الخلاصات تتضمّن ذكر أهم المسائل في هذا الباب لتدل الطالب اللبيب على ما وارءها، وتكون دراسته لما بعدها في كتب الاعتقاد زيادة تفصيل وبيان على أصول قد عرفها وتبيَّنها.
· من ذلك أن الله تعالى وصفَ نفسه بأنه سريع الحساب وأنه أسرع الحاسبين كما في قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[آل عمران: 199] وقوله: ﴿أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾[الأنعام: 62].
- قال البغوي: (﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾[الأنعام: 62] أي: إذا حاسب فحسابه سريع لأنه لا يحتاج إلى فكرة وروية وعقد يد).
- قال ابن تيمية: (قال رجل لابن عباس رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة).
· حساب الله تعالى مبني على العدل والإحسان ليس فيه ظلم على أحد من العباد مثقال ذرة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 40].
· بيَّن الله تعالى قواعد الحساب في قوله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء: 13-15].
- وقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء: 47].
- وقوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[القصص: 84].
· الحساب يوم القيامة على نوعين: حساب عسير، وحساب يسير
· فأما الحساب اليسير فهو لأهل الإيمان، وهو المذكور في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: 7-9].
· وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من حوسب يوم القيامة عُذِّب)).
قالت: فقلت: (أليس قال الله عز وجل:﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾[الانشقاق: 8]؟).
قال: (( ليس ذلك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب )).
· العباد غير معصومين من السيئات حتى المحسنين منهم تكون لهم سيئات لكن يتجاوز الله عنها كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: 33-35]، وقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾[الأحقاف: 16].
· إن من اجتنب الكبائر كُفِّرَت عنه سيئاته فضلاً من الله ورحمة، كما قال تعالى:﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا﴾ [النساء: 31]، ولذلك فإن من اجتنب الكبائر فهو ناجٍ بإذن الله من العذاب لأن سيئاته تُكفَّر عنه.
· أما الذي لا يجتنب الكبائر فإنه لا يأمن العذاب على ما اقترف من الكبائر والصغائر.
· كل ما يعمله العبد من السيئات فإنه يجزى به كما قال الله تعالى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾[النساء: 123].
- وهذا الجزاء إما أن يعاقب به العبد المسيء في الدنيا أو في الآخرة، أو يعمل العبد ما يمحو عنه السيئات من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية، أو يناله سببٌ يرفع الله به عنه عقوبة السيئات من دعوة مسلم أو شفاعة شافع أو رحمة أرحم الراحمين.
· امتدح الله عباده المؤمنين بأنهم ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾[الرعد: 21] وهذا الخوف يحملهم على التقوى بعمل الصالحات واجتناب السيئات.
- وسوء الحساب هو أن يناقش العبد بسيئاته ثم يجازى عليها؛ فإنه لا طاقة لأحد بعذاب الله.
- قال ابن جرير: (وقوله: ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾[الرعد: 21]، يقول: ويحذرون مناقشة الله إياهم في الحساب، ثم لا يصفح لهم عن ذنب، فهم لرهبتهم ذلك جادُّون في طاعته، محافظون على حدوده)ا.هـ.
· وليس معنى سوء الحساب أن الله يظلمهم، تعالى الله عن ذلك، بل إن الله يوفي كل إنسان عمله لا ينقص منه شيء؛ بل سماه الله تعالى الجزاء الأوفى الذي لا أوفى منه، فلا يغادر الله فيه حسنة وإن كانت مثقال ذرة، كما قال الله تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾[النجم: 36-42].
· وكما قال تعالى في الحديث القدسي: (( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) رواه مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا.
· دلت النصوص على أنالأمة على ثلاثة أصناف في الحساب:
- الصنف الأول: من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب.
- الصنف الثاني:من يحاسب حساباً يسيراً، فينظر في كتابه ويكلمه ربه ويقرره بذنوبه ثم يعفو عنه.
وهذا المقام ينبغي للعبد أن يتزيَّن له بما يستطيع من الأعمال الصالحة، ويتجنب ما يشينه ويسوؤه من الأعمال السيئة، فإنه مقام حقّ، يود العبد فيه أنه لم يعمل سوءاً قط.
كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربُّه عزَّ وجلَّ ليس بينه وبينه تُرجمان؛ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)).
قال الفضيل بن عياض: (واسوأتاه منك وإن عفوت).
- الصنف الثالث:الذين يُناقَشون الحساب، ومناقشة الحساب في نفسها عذاب، ثم ما يكون بعدها من العقوبة على السيئات عذاب أيضاً، والذين يؤمر بهم إلى العذاب هم الذين ظلموا أنفسهم من أهل الكبائر؛ ومنهم من تدركه رحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين فينجو ويسلم ومنهم من يُكَرْدَسُ في النار فيعذب فيها ما شاء الله أن يعذب ثم يَخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
· وفي مسند الإمام أحمد من حديث موسى بن عقبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( قال الله عز وجل ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله﴾[فاطر: 32] فأما الذين سبقوا بالخيرات فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون ﴿الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور﴾ -إلى قوله- ﴿لغوب﴾[فاطر: 34، 35])).وهذا الحديث قد روي من طرق عن أبي الدرداء هذا أجودها، وقيل: فيه انقطاع، وله شواهد، وهو موافق لنصوص الكتاب والسنة والله تعالى أعلم.
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يحاسب الله تعالى الخلقَ، ويخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه؛ كما وُصِفَ ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعدُّ أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها) ا.هـ.
· الحساب العسير الذي لا تيسير بعده إنما هو للكافرين والمنافقين كما دل عليه مفهوم آيات الانشقاق، مع قوله تعالى: ﴿وقفوهم إنهم مسؤولون﴾[الصافات: 24]، وقوله: ﴿فلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾[الأعراف: 6-9] وقوله: ﴿وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الفرقان: 26]، وقوله: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ﴾[المدثر: 9، 10].
· جزاء الله تعالى للمؤمنين بالنعيم إحسان منه وفضل لأنهم لا يستحقون الثواب استحقاقاً على الله؛ فهم عبيده، وقد خلقهم لطاعته لا يستوجبون عليه شيئاً، وأعمالهم في طاعة الله مهما بلغت لا توازي شكر نعمه عليهم ولا تقاربها، ولكنَّ الله تعالى وعدهم وعداً حسناً أن يثيبهم على ما يعملون من الحسنات، والله تعالى لا يخلف الميعاد.
· فيكون دخول المؤمنين للجنة إنما هو برحمة الله عز وجل وفضله وإحسانه ليس عن استحقاق في الأصل عليه.
· وجزاء الله تعالى للكفار والظالمين عدل منه جل وعلا لم يظلمهم فيه شيئاً؛ حتى إن الكفار أنفسهم يعلمون أنهم مستحقون للعذاب بسبب ما كانوا يعملون من السيئات وما اقترفوه من الكفر بالله جل وعلا، حتى إنهم ليمقتون أنفسهم مقتاً شديداً على ما فرطوا في جنب الله.
· والمقصود أن جزاء الله تعالى دائر بين العدل والإحسان لا ظلم فيه بوجه من الوجوه.
· وقد بيَّن الله تعالى الآيات والعظات وأرسل الرسل لينذروا هذا اليوم فمن استجاب وأناب تذكَّر وتبصَّر وسلك طريق النجاة فأفلح ونجا، ومن أعرض ونأى بجانبه وكفر بالله من بعد ما دعي إلى الإيمان فهو مستحق للعذاب الأليم والمقت الكبير كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) ﴾ [غافر: 10-20].
كُفْرُ من كذَّب بالبعث
قوله: (وَمَنْ كَذَّبَ بِالبَعْثِ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾[التغابن:7]).
· المكذب بالبعث كافر، وقد استدل على كفره بأمرين:
- الأمر الأول: لأنه مكذب لخبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
- الأمر الثاني: أن الله تعالى وصف القائلين بهذا بالقول بأنهم كفار فقال: ﴿زَعَمَ الذِينَ كَفَرُوا﴾[التغابن: 7].
· وهذا الاستدلال مبني على قاعدة من قواعد التفسير، وهي أنه إذا حُكِي في القرآن قولٌ أو فعلٌ عن قوم عُبِّر عنهم بوصف من الأوصاف فقولهم وفعلهم محكوم عليه بهذا الوصف.
- فإذا قيل: قال الكافرون؛ فالقول المحكي عنهم كفر، فمن يقول به فهو كافر.
- مثاله قوله تعالى: ﴿وقالَ الكَافِرونَ هَذا سَاحِرٌ كَذَّاب﴾[ص: 4]فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر أو كذاب فهو كافر.
· وقوله تعالى: ﴿ومَن يَدع مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لهُ بِهِ فإنما حِسَابهُ عِند ربّه إنَّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرون﴾[المؤمنون: 117] فدعاء غير الله عز وجل هو من فعل الكفار الذين حكم الله تعالى عليهم بأنهم لا يفلحون.
· وقوله: ﴿وقالَ الذين كفروا إن هذا إلا إِفْك افْتَرَاهُ وأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْم آخَرُون فقد جاؤوا ظُلْماً وزُوراً﴾[الفرقان: 4] فمن قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم افترى القرآن على ربه فهو كافر.
· وقوله: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهم بغَيْرِ عِلْم﴾[الروم: 29] فالذي يتبع هواه بغير علم فهو ظالم.
· ومنه هذا المثال: ﴿زَعَمَ الّذِينَ كَفَرُوا أنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾[التغابن: 7] فمن زعم أنه لن يبعث فهو كافر؛ لأنه قال بالمقالة التي وصف الله القائلين بها بأنهم كفار.
· وهذه القاعدة صحيحة في الأصل ولها استثناءات، والاستدلال الأول أصح وأقوى دلالة.
· وقد أجمع أهل العلم على كفر من كذب بالبعث.
مقاصد إرسال الرسل
قوله: (وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾).
· أرسل الله تعالى الرسل لحكم ثلاثة جمعها الله تعالى في قوله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء: 165]،وقوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾[البقرة: 213].
· وتلخص منها أن مقاصد إرسال الرسل ثلاثة:
- المقصد الأول: إقامة الحجة على العباد ببعثة الرسل وإنزال الكتب.
- المقصد الثاني:تبشير من يطيع الله ورسله.
- المقصد الثالث:إنذار العصاة.
· وهذه المقاصد يُجمع بعضها في بعض المواضع ويفرد بعضها، وكل مقصد منها إذا أفرد فهو دال على غيره.
- فإقامة الحجة تتضمن البشارة والنذارة.
- والبشارة إذا أفردت فمن لم يحقق شروطها فهو خاسر، وفي هذا حجة ونذارة.
- وكذلك النذارة فإن من اجتنب ما أنذر عليه فهو آمن من العذاب المنذر به وفي هذا حجة وبشارة.
· ولذلك ربما أفردت بعض المقاصد في بعض المواضع دون بعض.
· وَفَهْمُ هذا يزيل ما قد يُستشكَل من اختلاف وصف الحصر في بعض الآيات كما في قوله تعالى: ﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين﴾ [الأنعام: 48] في موضعين، ولم يذكر إقامة الحجة لفظاً لأنه لازم معنىً من الوعد بالبشارة والوعيد على النذارة.
· وقوله: ﴿إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 23]، وقوله: ﴿إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾[ص: 70].
· وكذلك شهادة كل رسول على أمته هي قائمة على هذه الأمور الثلاثة كما في قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]، وقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾[الأحزاب: 45، 46].
· فدعوة الرسل متضمنة لبيان الأوامر والنواهي وما يترتب عليها من البشارة والنذارة، وبيانهم ودعوتهم هي إقامة الحجة على من أرسلوا إليهم، وشهادتهم عليهم يوم القيامة هي من مقتضى إقامة الحجة لأنهم يشهدون عليهم بما أجابوهم به.
المقصد الأول: إقامة الحجة
· فأما المقصد الأول: وهو إقامة الحجة فإن الله عز وجل بيَّن أنه من عدله أنه لا يظلم أحداً مثقال ذرة، وأنه لا يعذب أحداً قبل أن يرسل إليه رسولاً كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15].
· وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾[الأنعام: 131].
- غافلون: أي غير عارفين بما يجب عليهم مما أوجبه الله من الإيمان به واتباع رسله.
· وقال الشنقيطي رحمه: (قوله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء: 165] الآية، لم يبين هنا ما هذه الحجة التي كانت تكون للناس عليه لو عذَّبهم دون إنذارهم على ألسنة الرسل، ولكنه بينها في سورة طه بقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134]، وأشار لها في سورة القصص بقوله: ﴿وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[القصص: 47])ا.هـ.
· وقد بيَّن الله تعالى أنَّ كل من يدخل النار من الكفار فقد قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل وعرفوا ما وجب عليهم وما أنذروا به لكنهم كذبوا واستكبروا أو اتبعوا المستكبرين، كما قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك: 6-11]
· فاعترفوا بذنبهم وأقروا بقيام الحجة عليهم ولم يجدوا إلا لوم أنفسهم فقالوا: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك: 10]
· وقال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[الزمر: 71].
· وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[سبأ: 31-33].
- فهؤلاء المستضعَفون لم ينكروا أن الهدى قد جاءهم، وعرفوا أنهم كانوا مجرمين بعصيانهم للرسل وكفرهم بالله جل وعلا، ولذلك ندموا حين لا تنفعهم الندامة.
· وقال تعالى مبيّنا ما يقوله للكفار من الإنس والجن يوم يحشرهم: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) ﴾[الأنعام: 130، 131].
· قال ابن جرير رحمه الله: (فقطع حجة كلّ مبطل ألحدَ في توحيده وخالف أمره بجميع معاني الحجج القاطعة عذرَه، إعذارًا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه)ا.هـ.
· وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين)).
· فالحجة تقوم على الخلق بإرسال الرسل؛ فما جاء به الرسل فهو لازم للناس، ومن خالفهم بأي حجة يتحجج بها فحجته داحضة باطلة.
· وهذا أصل مهم من أصول أهل السنة، وقد خالف فيه وفي بعض تفاصيله طوائف من أهل البدع وأشهرهم طائفتان:
- الطائفة الأولى: بعض المتكلمين -أصحاب علم الكلام – الذين زعموا أن الحجة قائمة بالعقل والفطرة، وأن الخلق لو عُذِّبوا دون إرسال الرسل لكان ذلك عدلاً.
- والطائفة الأخرى: بعض غلاة المتصوفة الذين زعموا أنهم يأخذون بالإلهام عن ربهم مباشرة دون واسطة رسول، ومنهم من يقول: حدثني قلبي عن ربي.
وكل من زعم أنه يسعه الخروج عن طاعة الرسول فهو كافر.
المقصد الثاني: البشارة
· قال الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 47]، وبيَّن هذا الفضل الكبير بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾[الشورى: 22].
· فقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾يتضمن ثلاثة أمور:
- الأمر الأول: البشارة لمن اتصف بالإيمان بالفضل الكبير في جنات النعيم.
- الأمر الثاني: النذارة لمن لم يتصف بالإيمان؛ بأن البشارة لا تناله، ومن حرم ثواب البشارة فهو خاسر.
- الأمر الثالث: أن معرفة الإيمان إنما تنال عن طريق الرسول الذي بلغهم البشارة، فهم لا يعرفون كيف يؤمنون إلا من طريقه.
· فتبين أن هذه المقاصد يدلّ بعضها على بعض، وأن القرآن يصدق بعضه بعضها، وأن العبارة الواحدة تدل على معان كثيرة يصدق بعضها بعضا.
المقصد الثالث: الإنذار
· قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)﴾[المدثر: 1، 2]، وقال تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾[فاطر: 24].
· وهذه النذارة على درجتين:
- الدرجة الأولى: النذارة للكفار بالخلود في النار وتحريم الجنة عليهم أبداً، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾[إبراهيم: 44].
- الدرجة الثانية: إنذار العصاة بما عليهم من العذاب، وقد أنذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الذنوب كبيرها وصغيرها، وخص الكبائر بمزيد تحذير وإنذار وبيَّن عقوبة بعضها، فمن ارتكبها بعدما بلغه العلم فهو مستحق للعقاب، والعياذ بالله.
- نسأل الله تعالى أن يتجاوز عن سيئاتنا وتقصيرنا، وأن يغفر لنا ويرحمنا ويهدينا إليه صراطاً مستقيما.
حكم أهل الفترة
· من المسائل المتصلة بهذا المبحث ما يعرف بمسألة حكم أهل الفترة.
· وهذه المسألة قد أفاض فيها أهل العلم، ومنها مسائل متفق عليها، ومسائل مختلف فيها، وقبل بحث هذه المسألة ينبغي التذكير بأصلين مهمين:
· الأصل الأول: أن كل أمة قد بعث فيها نذير كما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾[فاطر: 24]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
- وهذا العموم الوارد في الأمم لا يعارضه وجود أفراد لم تبلغهم الرسالة لأسباب عارضة اقتضتها حكمة الله تعالى.
· الأصل الثاني: أن الله تعالى قد اقتضى عدله ألا يعذب أحداً لم تقم عليه الحجة الرسالية كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾[الإسراء: 15].
- وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)).
- دل الحديث بمنطوقه على أن من بلغته الحجة ولم يؤمن فهو من أهل النار، ودل بمفهومه على أن من لم تبلغه الحجة الرسالية فلا يقع عليه هذا الوعيد.
· واسم هذه المسألة وهو حكم أهل الفترة أُخِذَ من قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[المائدة: 19]، والمقصود بالفترة انقطاع إرسال الرسل مدة طويلة من الزمن.
· قال ابن جرير: (﴿على فترة من الرسل﴾يقول: على انقطاع من الرسل، و"الفَترة" في هذا الموضع: الانقطاع؛ يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى، على انقطاع من الرسل، و"الفَترة": الفَعْلَة، من قول القائل:"فتر هذا الأمر يفتُر فُتورًا"، وذلك إذا هدأ وسكن، وكذلك"الفترة" في هذا الموضع، معناها: السكون، يراد به سكون مجيء الرسل، وذلك انقطاعها). ا.هـ.
· وقال أبو المظفر السمعاني: (وإنما سماه زمان الفترة، لأن الرسل كانوا بعد موسى تترى من غير انقطاع، ولم يكن بعد عيسى رسول سوى محمد).
· وقال ابن حجر: (وزمان الفترة هو ما بين الرسولين من المدة التي لا وحي فيها).
· وقال عامة المفسرين في هذه الآية بنحو ما قاله ابن جرير، بل نقل بعضهم الإجماع عليه.
· وأهل الفترة الكبرى هم من مات في الزمن الذي بين رفع عيسى عليه السلام وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
· لكن مما ينبغي التنبه له أن كون المرء من أهل الفترة لا يقتضي ذلك الحكم بكفره ولا إسلامه، والتفصيل في شأنهم أنهم على ثلاثة أقسام:
- قسم مسلمون متبعون لما بلغهم من الهدى بشريعة سابقة، ومنهم من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بخير كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل.
- وقسم كفار كذبوا الرسل وقامت عليهم الحجة من دعوة بلغتهم بطريق صحيح،وعلى هذا القسم تحمل الأحاديث الواردة في الحكم على بعض الكفار الذين ماتوا في الفترة بالنار.
- وقسم لم تبلغهم الدعوة فهؤلاء هم الذين وردت فيهم أحاديث الامتحان.
· وقد روي في مسألة الامتحان نحو سبعة أحاديث ثلاثة منها صحيحة والأخرى في طرقها ضعف.
· فأما الثلاثة الصحيحة فحديث عن الأسود بن سريع رضي الله عنه، وحديثان عن أبي هريرة رضي الله عنه أحدهما مرفوع، والآخر موقوف له حكم الرفع.
· فأما الحديث الأول: فهو ما رواه معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( أربعة يحتجون يوم القيامة؛ رجل أصم، ورجل هرم، ورجل أحمق، ورجل مات في الفترة؛
- فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً.
- وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر.
- وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل.
- وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول.
فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه؛ فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار )).
قال: (( فوالذي نفسي بيده لو دخلوها كانت عليهم بردا وسلاما )).
أخرجه: الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن نصر المروزي في الرد على ابن قتيبة، والبزار، وابن حبان، وأبو نعيم الأصبهاني، والطبراني، والضياء المقدسي، وابن حزم في الإحكام، والبيهقي في الاعتقاد كلهم من طريق معاذ بن هشام به.
· وأما الحديث الثاني: فهو ما رواه الإمام أحمد، ومحمد بن نصر المروزي في الرد على ابن قتيبة، وابن حزم في الإحكام، والبيهقي في الاعتقاد من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً نحوه إلا أنه قال في آخره: (( فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها يسحب إليها)).قال البيهقي: (وهذا إسناد صحيح)، والحديث صححه الألباني.
· وأما الحديث الثالث: فهو ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: (إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار).
قال:فيقولون: كيف ولم يأتنا رسول؟
قال: (وايم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاماً.
ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه.
قال: ثم قال أبو هريرة: (اقرؤوا إن شئتم:﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾[الإسراء: 15]).
وهذا إسناد صحيح إلى أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً عليه، ومثله لا يقال بالرأي، وقد رواه من هذا الطريق محمد بن نصر المروزي في الرد على ابن قتيبة.
- قال ابن القيم: (غاية ما يُقَدَّر فيه أنه موقوف على الصحابي ومثل هذا لا يقدم عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد بل يجزم بأن ذلك توقيف لا عن رأي).
- وقد صحت الرواية بمعناه عن أبي هريرة مرفوعاً من طريق آخر كما تقدم.
· وروي في هذا المعنى أحاديث أخرى عن أنس وثوبان وأبي سعيد الخدري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم وفي طرقها كلها ضعف.
· قال ابن القيم: (هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا فإنها قد تعددت طرقها واختلفت مخارجها فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله لم يتكلم بها وقد رواها أئمة الإسلام ودونوها ولم يطعنوا فيها).
· وممن صحَّحَ مسألة الامتحان: ابن حزم في الإحكام، والبيهقي في الاعتقاد، وعبد الحق الأشبيلي في الغاية، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر، والألباني، واحتج بها محمد بن نصر المروزي في الرد على ابن قتيبة.
· ومما ينبغي معرفته أن هذه المسألة أُلحِقَ بها من مات ولم تبلغه الدعوة وإن لم يكن من أهل الفترة المذكورة كأطفال المشركين ومجانينهم وكذلك من بلغته الدعوة على حال لا تقوم بها الحجة كالكبير المخرف والأصم ومن في حكمهم.
فالذي لا تبلغه الدعوة بوجه تقوم به عليه الحجة الرسالية فله حكم أهل الفترة، على ما سبق بيانه، والله تعالى أعلم.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُوا يُبْعَثُونَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه:55]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿واللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً﴾ [نوح:17-18].
وَبَعْدَ البَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ليَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى﴾ [النجم:31].
وَمَنْ كَذَّبَ بِالبَعْثِ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن:7]).
قال رحمه الله: (وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:165]).
عناصر الدرس:
· البعث بعد الموت
· الحساب والجزاء
· خلاصات نافعة في علم الجزاء
· كفر من كذَّب بالبعث
· مقاصد إرسال الرسل
- حكم طلب العلم
- المقصد الأول: إقامة الحجة
- المقصد الثاني: بشارة المطيعين
- المقصد الثالث: إنذار العصاة
· حكم أهل الفترة
البعث بعد الموت
قوله: (وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُوا يُبْعَثُونَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿واللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً﴾).
· مسألة البعث من المسائل الجليلة العظيمة في دين الإسلام, بل هي أصل من أصول الإيمان والذي لايؤمن بالبعث بعد الموت لايؤمن بما يترتب عليه من الحساب والجزاء.
· ولأهمية هذا الأصل وشناعة كفر من كذَّب به تكرر التأكيد عليه في القرآن العظيم كثيراً، وأكَّد الله تعالى بيان البعث بأنواع من الأدلة والتأكيدات:
- قال الله تعالى: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾[التغابن: 7] فبيَّن صحة البعث بالقَسَم، وهذا تأكيد لوقوعه.
- وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾[الحج: 5] فبيَّن أن بدأه لخلقنا من تراب, ثم من نطفة دليل على أنه قادر على أن يبعثنا بعد الموت؛ فالذي خلقنا ولم نكن من قبل شيئا, قادر على أن يعيدنا إلى الحياة الدنيا بعد موتنا, فهذا استدلال بالبدء على إمكان الإعادة، وهو دليل عظيم القدر تكرر تأكيده في القرآن كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[الروم: 27].
- وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[فصلت: 39] فبين لنا مثالا مما نراه بأعيننا, وهو إحياء الأرض بالماء والنبات بعد موتها, فالذي أحياها قادر على أن يحيي الموتى, وهذا استدلال بالنظير؛ فالذي يقدر على هذا الأمر يقدر على نظيره.
· وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الأحقاف: 33] وهذا استدلالٌ بالأولى, فإنَّ من قدر على خلق الأكبر والأشد قادر على خلق ما هو دونه, كما قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[غافر: 57].
· وقال تعالى: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾[لقمان: 28]، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[غافر: 68]، وقال تعالى: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة: 148] وهذا استدلال بالقدرة المطلقة التي يعجزها شيء.
· وقال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾[المؤمنون: 115، 116] فاستدل هنا بدليل الحكمة والغاية, فإن الله لم يخلق هذا الخلق العظيم عبثا, وإنما خلقه لحكمة عظيمة, فالعاقل يسأل نفسه لم خلق؟ ولماذا خلق الله هذه لمخلوقات؟
· فانظر كيف نوَّع الله تعالى هذه الأدلة في كتابه الكريم, تأكيداً لوقوع البعث، وأنه حق لا ريب فيه.
· وهذه الأدلة مجموعة في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) ﴾[يس: 77-83].
· فتضمنت هذه الآيات, ذكر أنواع من الأدلة على البعث:فذكر دليل البدء, ودليل النظير, ودليل الأولى, ودليل القدرة المطلقة, ودليل الحكمة والتنزيه عن العبث, فهذه أدلة ظاهرة من تأملها أيقن يقينا تاما بالبعث.
· والإيمان بالبعث يستلزم الإيمان بما يكون بعده من الحساب والجزاء.
الحساب والجزاء
قوله: (وَبَعْدَ البَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ليَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى﴾[النجم:31]).
· الإيمان بالحساب والجزاء أصل مهم من أصول الإيمان، وهو من الإيمان بالغيب.
· والحساب والجزاء من أعظم ما يكون يوم القيامة بل لعظم ذلك سمي يوم القيامة بيوم الحساب كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[ص: 26].
· وسمي بيوم الدّين أي الحساب والجزاء الذي يدان فيه الناس بأعمالهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) ﴾[الصافات: 15-21].
· وتوعَّد الله تعالى من أنكر البعث والحساب بالنار فقال تعالى: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾[الذاريات: 10-14].
- سؤالهم: (أيان يوم الدين) سؤال تعجب وإنكار وتعجيز واستبعاد لوقوعه حتى إنهم من فرط تكذيبهم وإنكارهم يستعجلونه فيقولون للمؤمنين ﴿متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾ [الملك: 25]؛ فبكَّتهم الله بهذه الآيات، وتوعَّدهم على تكذيبهم وغفلتهم عن يوم الحساب الوعيدَ الشديد والعذاب الأليم.
· والإيمان بالحساب والجزاء له آثاره على المؤمن في عباداته وسلوكه فإنَّ من يعلم أن ما يعمله من خير أو شر سيحاسب عليه ويجزى به فإنه حري به أن يجتهد في اكتساب الأعمال الصالحة رجاء انتفاعه بها يوم الحساب والجزاء، ويجتنب السيئات مخافة عقوبتها يوم الحساب والجزاء.
· ويحمله ذلك على إحسان معاملته للناس ابتغاء ثواب الله عز وجل، واجتناب الظلم والعداون مخافة أن يجازى على ظلمه لهم فيقتصوا منه يوم القيامة بما يُعطون من حسناته أو يُلقى إليه من سيئاتهم.
· وبهذا يتبيَّن أن العبد لا يعاقب إلا بأحد سببين:
- السبب الأول: تقصيره في حق الله عز وجل، بارتكابه بعض المحرمات، أو تركه بعض الواجبات؛ فيعذب على ذلك ما لم يعمل ما يرفع عنه العذاب من توبة صادقة أو حسنات ماحيةٍ للسيئات أو يدركه سببٌ يرفع الله به عنه العذاب.
- السبب الآخر: تقصيره في حقوق الناس؛ إما بمنعهم ما يستحقون من الحقوق الواجبة لهم عليه، أو الاعتداء عليهم بقول أو فعل، وكلاهما ظلم؛ فإن الظلم يشمل منع المستحق حقَّه، والعدوان على المعصوم.
· فمنْ أدَّى حقَّ الله عزَّ وجلَّ وحقَّ عباده فإنه لا يُعاقب أبداً؛ لأن العقوبة لا تكون إلا على ذنب؛ والذنب إما أن يكون في حق الله عز وجل، وإما أن يكون في حق عباده.
· وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينجِّي المؤمن من العذاب بوصية جامعة فقال: (( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)). رواه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث معاذ بن جبل وحديث أبي ذر رضي الله عنهما.
· وباب الإيمان بالحساب والجزاء له تفاصيل ذكرها الأئمة في كتب الاعتقاد وذكرها المفسرون وشراح الأحاديث، وفيها مسائل جليلة ينبغي للعبد أن يتأملها ويعتني بها.
· وقد ذكر بعض أهل العلم أن علم الجزاء ثلث العلم، كما قال ابن القيم رحمه الله:
والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن
والأمـر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكل في القرآن والسنن التي ... جاءت عن المبعوث بالفرقان
- فجعل العلوم ثلاثة: علم العقيدة وعلم الشريعة وعلم الجزاء.
- ولو أنه قال: (وجزاؤه بالعدل والإحسان) لكان أجود، ليعم الجزاء الدنيوي والأخروي، وليبين أن جزاء الله تعالى لا ظلم فيه بل هو مبني على العدل والإحسان.
· والمقصود أن علم الجزاء من العلوم الجليلة النافعة لأنه العلم الذي يَعرف به العبدُ ثوابَ حسناته وعقاب سيئاته، وسُبُلَ مضاعفة الحسنات والوقاية من السيئات وعقوباتها.
· وقد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك رسالة جليلة نافعة طبعت باسم (الحسنة والسيئة)، وله رسالة في (مكفِّرات الذنوب).
· ومقصود هذا الفصل من هذا الدرس هو بيان وجوب الإيمان بالحساب والجزاء، وأنَّ من أنكره فهو كافرٌ كفراً أكبر بإجماع العلماء، وأن المؤمن يجب عليه أن يجتنب ما يعاقب عليه يوم الحساب.
خلاصات نافعة في علم الجزاء
· هذه الخلاصات تتضمّن ذكر أهم المسائل في هذا الباب لتدل الطالب اللبيب على ما وارءها، وتكون دراسته لما بعدها في كتب الاعتقاد زيادة تفصيل وبيان على أصول قد عرفها وتبيَّنها.
· من ذلك أن الله تعالى وصفَ نفسه بأنه سريع الحساب وأنه أسرع الحاسبين كما في قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[آل عمران: 199] وقوله: ﴿أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾[الأنعام: 62].
- قال البغوي: (﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾[الأنعام: 62] أي: إذا حاسب فحسابه سريع لأنه لا يحتاج إلى فكرة وروية وعقد يد).
- قال ابن تيمية: (قال رجل لابن عباس رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة).
· حساب الله تعالى مبني على العدل والإحسان ليس فيه ظلم على أحد من العباد مثقال ذرة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 40].
· بيَّن الله تعالى قواعد الحساب في قوله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء: 13-15].
- وقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء: 47].
- وقوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[القصص: 84].
· الحساب يوم القيامة على نوعين: حساب عسير، وحساب يسير
· فأما الحساب اليسير فهو لأهل الإيمان، وهو المذكور في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: 7-9].
· وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من حوسب يوم القيامة عُذِّب)).
قالت: فقلت: (أليس قال الله عز وجل:﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾[الانشقاق: 8]؟).
قال: (( ليس ذلك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب )).
· العباد غير معصومين من السيئات حتى المحسنين منهم تكون لهم سيئات لكن يتجاوز الله عنها كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: 33-35]، وقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾[الأحقاف: 16].
· إن من اجتنب الكبائر كُفِّرَت عنه سيئاته فضلاً من الله ورحمة، كما قال تعالى:﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا﴾ [النساء: 31]، ولذلك فإن من اجتنب الكبائر فهو ناجٍ بإذن الله من العذاب لأن سيئاته تُكفَّر عنه.
· أما الذي لا يجتنب الكبائر فإنه لا يأمن العذاب على ما اقترف من الكبائر والصغائر.
· كل ما يعمله العبد من السيئات فإنه يجزى به كما قال الله تعالى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾[النساء: 123].
- وهذا الجزاء إما أن يعاقب به العبد المسيء في الدنيا أو في الآخرة، أو يعمل العبد ما يمحو عنه السيئات من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية، أو يناله سببٌ يرفع الله به عنه عقوبة السيئات من دعوة مسلم أو شفاعة شافع أو رحمة أرحم الراحمين.
· امتدح الله عباده المؤمنين بأنهم ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾[الرعد: 21] وهذا الخوف يحملهم على التقوى بعمل الصالحات واجتناب السيئات.
- وسوء الحساب هو أن يناقش العبد بسيئاته ثم يجازى عليها؛ فإنه لا طاقة لأحد بعذاب الله.
- قال ابن جرير: (وقوله: ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾[الرعد: 21]، يقول: ويحذرون مناقشة الله إياهم في الحساب، ثم لا يصفح لهم عن ذنب، فهم لرهبتهم ذلك جادُّون في طاعته، محافظون على حدوده)ا.هـ.
· وليس معنى سوء الحساب أن الله يظلمهم، تعالى الله عن ذلك، بل إن الله يوفي كل إنسان عمله لا ينقص منه شيء؛ بل سماه الله تعالى الجزاء الأوفى الذي لا أوفى منه، فلا يغادر الله فيه حسنة وإن كانت مثقال ذرة، كما قال الله تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾[النجم: 36-42].
· وكما قال تعالى في الحديث القدسي: (( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) رواه مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا.
· دلت النصوص على أنالأمة على ثلاثة أصناف في الحساب:
- الصنف الأول: من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب.
- الصنف الثاني:من يحاسب حساباً يسيراً، فينظر في كتابه ويكلمه ربه ويقرره بذنوبه ثم يعفو عنه.
وهذا المقام ينبغي للعبد أن يتزيَّن له بما يستطيع من الأعمال الصالحة، ويتجنب ما يشينه ويسوؤه من الأعمال السيئة، فإنه مقام حقّ، يود العبد فيه أنه لم يعمل سوءاً قط.
كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربُّه عزَّ وجلَّ ليس بينه وبينه تُرجمان؛ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)).
قال الفضيل بن عياض: (واسوأتاه منك وإن عفوت).
- الصنف الثالث:الذين يُناقَشون الحساب، ومناقشة الحساب في نفسها عذاب، ثم ما يكون بعدها من العقوبة على السيئات عذاب أيضاً، والذين يؤمر بهم إلى العذاب هم الذين ظلموا أنفسهم من أهل الكبائر؛ ومنهم من تدركه رحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين فينجو ويسلم ومنهم من يُكَرْدَسُ في النار فيعذب فيها ما شاء الله أن يعذب ثم يَخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
· وفي مسند الإمام أحمد من حديث موسى بن عقبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( قال الله عز وجل ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله﴾[فاطر: 32] فأما الذين سبقوا بالخيرات فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون ﴿الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور﴾ -إلى قوله- ﴿لغوب﴾[فاطر: 34، 35])).وهذا الحديث قد روي من طرق عن أبي الدرداء هذا أجودها، وقيل: فيه انقطاع، وله شواهد، وهو موافق لنصوص الكتاب والسنة والله تعالى أعلم.
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يحاسب الله تعالى الخلقَ، ويخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه؛ كما وُصِفَ ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعدُّ أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها) ا.هـ.
· الحساب العسير الذي لا تيسير بعده إنما هو للكافرين والمنافقين كما دل عليه مفهوم آيات الانشقاق، مع قوله تعالى: ﴿وقفوهم إنهم مسؤولون﴾[الصافات: 24]، وقوله: ﴿فلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾[الأعراف: 6-9] وقوله: ﴿وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الفرقان: 26]، وقوله: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ﴾[المدثر: 9، 10].
· جزاء الله تعالى للمؤمنين بالنعيم إحسان منه وفضل لأنهم لا يستحقون الثواب استحقاقاً على الله؛ فهم عبيده، وقد خلقهم لطاعته لا يستوجبون عليه شيئاً، وأعمالهم في طاعة الله مهما بلغت لا توازي شكر نعمه عليهم ولا تقاربها، ولكنَّ الله تعالى وعدهم وعداً حسناً أن يثيبهم على ما يعملون من الحسنات، والله تعالى لا يخلف الميعاد.
· فيكون دخول المؤمنين للجنة إنما هو برحمة الله عز وجل وفضله وإحسانه ليس عن استحقاق في الأصل عليه.
· وجزاء الله تعالى للكفار والظالمين عدل منه جل وعلا لم يظلمهم فيه شيئاً؛ حتى إن الكفار أنفسهم يعلمون أنهم مستحقون للعذاب بسبب ما كانوا يعملون من السيئات وما اقترفوه من الكفر بالله جل وعلا، حتى إنهم ليمقتون أنفسهم مقتاً شديداً على ما فرطوا في جنب الله.
· والمقصود أن جزاء الله تعالى دائر بين العدل والإحسان لا ظلم فيه بوجه من الوجوه.
· وقد بيَّن الله تعالى الآيات والعظات وأرسل الرسل لينذروا هذا اليوم فمن استجاب وأناب تذكَّر وتبصَّر وسلك طريق النجاة فأفلح ونجا، ومن أعرض ونأى بجانبه وكفر بالله من بعد ما دعي إلى الإيمان فهو مستحق للعذاب الأليم والمقت الكبير كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) ﴾ [غافر: 10-20].
كُفْرُ من كذَّب بالبعث
قوله: (وَمَنْ كَذَّبَ بِالبَعْثِ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾[التغابن:7]).
· المكذب بالبعث كافر، وقد استدل على كفره بأمرين:
- الأمر الأول: لأنه مكذب لخبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
- الأمر الثاني: أن الله تعالى وصف القائلين بهذا بالقول بأنهم كفار فقال: ﴿زَعَمَ الذِينَ كَفَرُوا﴾[التغابن: 7].
· وهذا الاستدلال مبني على قاعدة من قواعد التفسير، وهي أنه إذا حُكِي في القرآن قولٌ أو فعلٌ عن قوم عُبِّر عنهم بوصف من الأوصاف فقولهم وفعلهم محكوم عليه بهذا الوصف.
- فإذا قيل: قال الكافرون؛ فالقول المحكي عنهم كفر، فمن يقول به فهو كافر.
- مثاله قوله تعالى: ﴿وقالَ الكَافِرونَ هَذا سَاحِرٌ كَذَّاب﴾[ص: 4]فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر أو كذاب فهو كافر.
· وقوله تعالى: ﴿ومَن يَدع مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لهُ بِهِ فإنما حِسَابهُ عِند ربّه إنَّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرون﴾[المؤمنون: 117] فدعاء غير الله عز وجل هو من فعل الكفار الذين حكم الله تعالى عليهم بأنهم لا يفلحون.
· وقوله: ﴿وقالَ الذين كفروا إن هذا إلا إِفْك افْتَرَاهُ وأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْم آخَرُون فقد جاؤوا ظُلْماً وزُوراً﴾[الفرقان: 4] فمن قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم افترى القرآن على ربه فهو كافر.
· وقوله: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهم بغَيْرِ عِلْم﴾[الروم: 29] فالذي يتبع هواه بغير علم فهو ظالم.
· ومنه هذا المثال: ﴿زَعَمَ الّذِينَ كَفَرُوا أنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾[التغابن: 7] فمن زعم أنه لن يبعث فهو كافر؛ لأنه قال بالمقالة التي وصف الله القائلين بها بأنهم كفار.
· وهذه القاعدة صحيحة في الأصل ولها استثناءات، والاستدلال الأول أصح وأقوى دلالة.
· وقد أجمع أهل العلم على كفر من كذب بالبعث.
مقاصد إرسال الرسل
قوله: (وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾).
· أرسل الله تعالى الرسل لحكم ثلاثة جمعها الله تعالى في قوله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء: 165]،وقوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾[البقرة: 213].
· وتلخص منها أن مقاصد إرسال الرسل ثلاثة:
- المقصد الأول: إقامة الحجة على العباد ببعثة الرسل وإنزال الكتب.
- المقصد الثاني:تبشير من يطيع الله ورسله.
- المقصد الثالث:إنذار العصاة.
· وهذه المقاصد يُجمع بعضها في بعض المواضع ويفرد بعضها، وكل مقصد منها إذا أفرد فهو دال على غيره.
- فإقامة الحجة تتضمن البشارة والنذارة.
- والبشارة إذا أفردت فمن لم يحقق شروطها فهو خاسر، وفي هذا حجة ونذارة.
- وكذلك النذارة فإن من اجتنب ما أنذر عليه فهو آمن من العذاب المنذر به وفي هذا حجة وبشارة.
· ولذلك ربما أفردت بعض المقاصد في بعض المواضع دون بعض.
· وَفَهْمُ هذا يزيل ما قد يُستشكَل من اختلاف وصف الحصر في بعض الآيات كما في قوله تعالى: ﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين﴾ [الأنعام: 48] في موضعين، ولم يذكر إقامة الحجة لفظاً لأنه لازم معنىً من الوعد بالبشارة والوعيد على النذارة.
· وقوله: ﴿إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 23]، وقوله: ﴿إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾[ص: 70].
· وكذلك شهادة كل رسول على أمته هي قائمة على هذه الأمور الثلاثة كما في قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]، وقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾[الأحزاب: 45، 46].
· فدعوة الرسل متضمنة لبيان الأوامر والنواهي وما يترتب عليها من البشارة والنذارة، وبيانهم ودعوتهم هي إقامة الحجة على من أرسلوا إليهم، وشهادتهم عليهم يوم القيامة هي من مقتضى إقامة الحجة لأنهم يشهدون عليهم بما أجابوهم به.
المقصد الأول: إقامة الحجة
· فأما المقصد الأول: وهو إقامة الحجة فإن الله عز وجل بيَّن أنه من عدله أنه لا يظلم أحداً مثقال ذرة، وأنه لا يعذب أحداً قبل أن يرسل إليه رسولاً كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15].
· وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾[الأنعام: 131].
- غافلون: أي غير عارفين بما يجب عليهم مما أوجبه الله من الإيمان به واتباع رسله.
· وقال الشنقيطي رحمه: (قوله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء: 165] الآية، لم يبين هنا ما هذه الحجة التي كانت تكون للناس عليه لو عذَّبهم دون إنذارهم على ألسنة الرسل، ولكنه بينها في سورة طه بقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134]، وأشار لها في سورة القصص بقوله: ﴿وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[القصص: 47])ا.هـ.
· وقد بيَّن الله تعالى أنَّ كل من يدخل النار من الكفار فقد قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل وعرفوا ما وجب عليهم وما أنذروا به لكنهم كذبوا واستكبروا أو اتبعوا المستكبرين، كما قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك: 6-11]
· فاعترفوا بذنبهم وأقروا بقيام الحجة عليهم ولم يجدوا إلا لوم أنفسهم فقالوا: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك: 10]
· وقال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[الزمر: 71].
· وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[سبأ: 31-33].
- فهؤلاء المستضعَفون لم ينكروا أن الهدى قد جاءهم، وعرفوا أنهم كانوا مجرمين بعصيانهم للرسل وكفرهم بالله جل وعلا، ولذلك ندموا حين لا تنفعهم الندامة.
· وقال تعالى مبيّنا ما يقوله للكفار من الإنس والجن يوم يحشرهم: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) ﴾[الأنعام: 130، 131].
· قال ابن جرير رحمه الله: (فقطع حجة كلّ مبطل ألحدَ في توحيده وخالف أمره بجميع معاني الحجج القاطعة عذرَه، إعذارًا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه)ا.هـ.
· وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين)).
· فالحجة تقوم على الخلق بإرسال الرسل؛ فما جاء به الرسل فهو لازم للناس، ومن خالفهم بأي حجة يتحجج بها فحجته داحضة باطلة.
· وهذا أصل مهم من أصول أهل السنة، وقد خالف فيه وفي بعض تفاصيله طوائف من أهل البدع وأشهرهم طائفتان:
- الطائفة الأولى: بعض المتكلمين -أصحاب علم الكلام – الذين زعموا أن الحجة قائمة بالعقل والفطرة، وأن الخلق لو عُذِّبوا دون إرسال الرسل لكان ذلك عدلاً.
- والطائفة الأخرى: بعض غلاة المتصوفة الذين زعموا أنهم يأخذون بالإلهام عن ربهم مباشرة دون واسطة رسول، ومنهم من يقول: حدثني قلبي عن ربي.
وكل من زعم أنه يسعه الخروج عن طاعة الرسول فهو كافر.
المقصد الثاني: البشارة
· قال الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 47]، وبيَّن هذا الفضل الكبير بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾[الشورى: 22].
· فقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾يتضمن ثلاثة أمور:
- الأمر الأول: البشارة لمن اتصف بالإيمان بالفضل الكبير في جنات النعيم.
- الأمر الثاني: النذارة لمن لم يتصف بالإيمان؛ بأن البشارة لا تناله، ومن حرم ثواب البشارة فهو خاسر.
- الأمر الثالث: أن معرفة الإيمان إنما تنال عن طريق الرسول الذي بلغهم البشارة، فهم لا يعرفون كيف يؤمنون إلا من طريقه.
· فتبين أن هذه المقاصد يدلّ بعضها على بعض، وأن القرآن يصدق بعضه بعضها، وأن العبارة الواحدة تدل على معان كثيرة يصدق بعضها بعضا.
المقصد الثالث: الإنذار
· قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)﴾[المدثر: 1، 2]، وقال تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾[فاطر: 24].
· وهذه النذارة على درجتين:
- الدرجة الأولى: النذارة للكفار بالخلود في النار وتحريم الجنة عليهم أبداً، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾[إبراهيم: 44].
- الدرجة الثانية: إنذار العصاة بما عليهم من العذاب، وقد أنذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الذنوب كبيرها وصغيرها، وخص الكبائر بمزيد تحذير وإنذار وبيَّن عقوبة بعضها، فمن ارتكبها بعدما بلغه العلم فهو مستحق للعقاب، والعياذ بالله.
- نسأل الله تعالى أن يتجاوز عن سيئاتنا وتقصيرنا، وأن يغفر لنا ويرحمنا ويهدينا إليه صراطاً مستقيما.
حكم أهل الفترة
· من المسائل المتصلة بهذا المبحث ما يعرف بمسألة حكم أهل الفترة.
· وهذه المسألة قد أفاض فيها أهل العلم، ومنها مسائل متفق عليها، ومسائل مختلف فيها، وقبل بحث هذه المسألة ينبغي التذكير بأصلين مهمين:
· الأصل الأول: أن كل أمة قد بعث فيها نذير كما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾[فاطر: 24]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
- وهذا العموم الوارد في الأمم لا يعارضه وجود أفراد لم تبلغهم الرسالة لأسباب عارضة اقتضتها حكمة الله تعالى.
· الأصل الثاني: أن الله تعالى قد اقتضى عدله ألا يعذب أحداً لم تقم عليه الحجة الرسالية كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾[الإسراء: 15].
- وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)).
- دل الحديث بمنطوقه على أن من بلغته الحجة ولم يؤمن فهو من أهل النار، ودل بمفهومه على أن من لم تبلغه الحجة الرسالية فلا يقع عليه هذا الوعيد.
· واسم هذه المسألة وهو حكم أهل الفترة أُخِذَ من قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[المائدة: 19]، والمقصود بالفترة انقطاع إرسال الرسل مدة طويلة من الزمن.
· قال ابن جرير: (﴿على فترة من الرسل﴾يقول: على انقطاع من الرسل، و"الفَترة" في هذا الموضع: الانقطاع؛ يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى، على انقطاع من الرسل، و"الفَترة": الفَعْلَة، من قول القائل:"فتر هذا الأمر يفتُر فُتورًا"، وذلك إذا هدأ وسكن، وكذلك"الفترة" في هذا الموضع، معناها: السكون، يراد به سكون مجيء الرسل، وذلك انقطاعها). ا.هـ.
· وقال أبو المظفر السمعاني: (وإنما سماه زمان الفترة، لأن الرسل كانوا بعد موسى تترى من غير انقطاع، ولم يكن بعد عيسى رسول سوى محمد).
· وقال ابن حجر: (وزمان الفترة هو ما بين الرسولين من المدة التي لا وحي فيها).
· وقال عامة المفسرين في هذه الآية بنحو ما قاله ابن جرير، بل نقل بعضهم الإجماع عليه.
· وأهل الفترة الكبرى هم من مات في الزمن الذي بين رفع عيسى عليه السلام وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
· لكن مما ينبغي التنبه له أن كون المرء من أهل الفترة لا يقتضي ذلك الحكم بكفره ولا إسلامه، والتفصيل في شأنهم أنهم على ثلاثة أقسام:
- قسم مسلمون متبعون لما بلغهم من الهدى بشريعة سابقة، ومنهم من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بخير كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل.
- وقسم كفار كذبوا الرسل وقامت عليهم الحجة من دعوة بلغتهم بطريق صحيح،وعلى هذا القسم تحمل الأحاديث الواردة في الحكم على بعض الكفار الذين ماتوا في الفترة بالنار.
- وقسم لم تبلغهم الدعوة فهؤلاء هم الذين وردت فيهم أحاديث الامتحان.
· وقد روي في مسألة الامتحان نحو سبعة أحاديث ثلاثة منها صحيحة والأخرى في طرقها ضعف.
· فأما الثلاثة الصحيحة فحديث عن الأسود بن سريع رضي الله عنه، وحديثان عن أبي هريرة رضي الله عنه أحدهما مرفوع، والآخر موقوف له حكم الرفع.
· فأما الحديث الأول: فهو ما رواه معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( أربعة يحتجون يوم القيامة؛ رجل أصم، ورجل هرم، ورجل أحمق، ورجل مات في الفترة؛
- فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً.
- وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر.
- وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل.
- وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول.
فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه؛ فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار )).
قال: (( فوالذي نفسي بيده لو دخلوها كانت عليهم بردا وسلاما )).
أخرجه: الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن نصر المروزي في الرد على ابن قتيبة، والبزار، وابن حبان، وأبو نعيم الأصبهاني، والطبراني، والضياء المقدسي، وابن حزم في الإحكام، والبيهقي في الاعتقاد كلهم من طريق معاذ بن هشام به.
· وأما الحديث الثاني: فهو ما رواه الإمام أحمد، ومحمد بن نصر المروزي في الرد على ابن قتيبة، وابن حزم في الإحكام، والبيهقي في الاعتقاد من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً نحوه إلا أنه قال في آخره: (( فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها يسحب إليها)).قال البيهقي: (وهذا إسناد صحيح)، والحديث صححه الألباني.
· وأما الحديث الثالث: فهو ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: (إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار).
قال:فيقولون: كيف ولم يأتنا رسول؟
قال: (وايم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاماً.
ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه.
قال: ثم قال أبو هريرة: (اقرؤوا إن شئتم:﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾[الإسراء: 15]).
وهذا إسناد صحيح إلى أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً عليه، ومثله لا يقال بالرأي، وقد رواه من هذا الطريق محمد بن نصر المروزي في الرد على ابن قتيبة.
- قال ابن القيم: (غاية ما يُقَدَّر فيه أنه موقوف على الصحابي ومثل هذا لا يقدم عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد بل يجزم بأن ذلك توقيف لا عن رأي).
- وقد صحت الرواية بمعناه عن أبي هريرة مرفوعاً من طريق آخر كما تقدم.
· وروي في هذا المعنى أحاديث أخرى عن أنس وثوبان وأبي سعيد الخدري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم وفي طرقها كلها ضعف.
· قال ابن القيم: (هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا فإنها قد تعددت طرقها واختلفت مخارجها فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله لم يتكلم بها وقد رواها أئمة الإسلام ودونوها ولم يطعنوا فيها).
· وممن صحَّحَ مسألة الامتحان: ابن حزم في الإحكام، والبيهقي في الاعتقاد، وعبد الحق الأشبيلي في الغاية، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر، والألباني، واحتج بها محمد بن نصر المروزي في الرد على ابن قتيبة.
· ومما ينبغي معرفته أن هذه المسألة أُلحِقَ بها من مات ولم تبلغه الدعوة وإن لم يكن من أهل الفترة المذكورة كأطفال المشركين ومجانينهم وكذلك من بلغته الدعوة على حال لا تقوم بها الحجة كالكبير المخرف والأصم ومن في حكمهم.
فالذي لا تبلغه الدعوة بوجه تقوم به عليه الحجة الرسالية فله حكم أهل الفترة، على ما سبق بيانه، والله تعالى أعلم.